الدم.. هو العنصر المشترك.. سر الحياة والموت يراق علي الطرقات من فعل أهوج مجنون من مخبول تحركه أصابع قذرة خارجية.. أو ينقذ الضحايا!! لم يكن غريبًا المشهد.. بكاء وعويل في طوابير بطول الحبل السري الذي يربط بيننا جميعًا.. شعب واحد، لا هلال ولا صليب كلنا مصريون ومصريون فقط. في طوابير لا أول لها ولا آخر وقف المصريون في مستشفيات الإسكندرية ليتبرعوا بالدم.. من يرفضه الطبيب لظروفه المرضية يبكي.. من يجد ثلاجات المستشفي امتلأت بأكياس الدم يجري مذعورًا ليلحق بمستشفي آخر يقبل أن يأخذ دمه ليجري في عروق شقيقه المصاب لتدب فيه الحياة من جديد لنعيش كما كنا دائما إخوة في الدم.. وفي الكنيسة والمسجد المتجاورين عاد الهدوء، نعم، لكن الغصة مازالت في الحلوق.. الشوكة التي حاول أن يغرسها الجبناء في ظهورنا آلمتنا جميعًا وإن لم تنل منا، عاد المصريون للصلاة والوضوء في الكنيسة والصلاة في المسجد. «كان صعبًا جدًا علي نفوسنا، أن نشاهد دموع مواطنين يبكون، متوسلين إلينا أن نقبل تبرعهم بالدماء بينما نحن نرفض فيزداد نحيبهم.. رفضنا لم يكن لشيء سوي أن الكشف عليهم أثبت أن ظروفهم الصحية لا تسمح سواء لارتفاع الضغط أو الإصابة بمرض السكر أو غير ذلك من الأسباب الصحية». هذه الكلمات قالها د. شريف العجمي نائب مدير مستشفي شرق الإسكندرية وهو يفتح باب ثلاجة حفظ أكياس الدماء قائلاً: «انظر.. بنك الدماء مليء بالأكياس وكذلك تبرعات البلازما.. وهذا يعكس توحد المصريين، فقد شهد المستشفي إقبالاً لم يشهده من قبل للتبرع بالدماء للمصابين لدرجة أن إدارة المستشفي رفضت عدداً من المتبرعين الأصحاء وسجلت أسماءهم وهواتفهم في سجلات للاستعانة بهم وقت الحاجة، وذلك لأن بنك الدم به الآن 300 كيس تفوق حاجة المستشفي وله مدة يفسد بعدها فأشرنا إلي قرابة 400 متبرع بالتوجه لمستشفيات أخري أو انتظار طلبهم. سألته: هل المتبرعون مسيحيون؟ قال: «اطلاقا 50% من المتبرعين مسلمون، ومن المسلمين من بكي لرفض تبرعه لأسباب صحية». نهاية الطرقة التي بها غرفة بنك الدم وعلي بعد 200 متر كانت العناية المركزة في الدور الثاني بالمستشفي يقف أمامها العشرات من المصريين حاملين الورود يتنافسون من أجل زيارة المصابين.. وبالداخل كان فيكتور إبراهيم 25 عامًا ممددًا علي سريره مبتسمًا رغم ما يشعر به من آلام.. قال: أنا معيد بكلية الهندسة قسم الحاسب الآلي بجامعة الإسكندرية ذهبت للصلاة في الكنيسة وبينما أنا خارج عقب انتهائها فوجئت بالانفجار وفقدت الوعي لاستيقظ داخل العناية المركزة. وبينما يتحدث بصوت أنهكته الإصابة إذ بزملاء له بالجامعة جاءوا لزيارته قابلهم بابتسامة.. قائلاً: «اللي عملوا كده مش مصريين».. شقيقه ابراهام مهندس ميكانيكا كان أكثر ألماً رغم عدم تواجده لحظة الحادث قال: «أطالب بمحاسبة المقصرين، ولابد أن ينال كل من قصر جزاءه» ثم استخرج «صامولة» وقال هذه وخمس صواميل أخري خرجت من جسد أخي بينما لا تزال واحدة تحت الرئة سيجري الأطباء جراحة لاستخراجها. نرفض العنف إبراهام الذي طالب بمحاسبة المقصرين رفض بشدة المظاهرات التي يقوم بها عدد من المسيحيين رافعين شعارات طائفية قائلاً: «لا نعلم من فعل الجريمة ولا يجب أن يقابل العنف بالعنف أو التحريض عليه». احتراق البراءة وفي غرفة أخري كانت البراءة محترقة.. كارولين طفلة في الخامسة من عمرها تنظر بحزن من خلف ماسك كريمات ومراهم مضادة للحروق لا تقدر علي الكلام فهي أحد الملائكة التي طالتهم أيادي شياطين الإرهاب. التزام المصلين «الأمن لم يقصر والكنيسة كانت مؤمنة والحراسة في مكانها.. لكن عدداً من المصلين لم يلتزم بتعليمات الأمن.. طالبنا من يخرج أن ينصرف بسرعة أو يظل بالداخل.. لكن المصلين تجمعوا أمام الكنيسة في أحاديث جانبية. فكان صعباً أن نرصد الوجه الغريب. وفوجئت بانفجار أصبت فيه وبعد دقيقتين ونصف الدقيقة وأثناء نقلي للمستشفي سمعت صوت انفجار ثانٍ» كانت هذه كلمات نادر أحمد أمين شرطة أحد أفراد مجموعة حراسة الكنيسة والذي أصيب ولا يزال طريح الفراش بالمستشفي إلي جانب مصابين مسيحيين، ومسلمين حيث يعاني من إصابات ناجمة عن شظايا اخترقت قدميه رافضاً ما وجه لهم من اتهامات بالتقصير. كردون أمني وعلي مسافة 250 متراً من المستشفي كان مسرح الجريمة محاطاً ب20 سيارة أمن مركزي وكردون أمني علي جميع مداخل ومخارج الشارع بينما وقفت كنيسة القديسين ومسجد شرق وجهاً لوجه ولاتزال الدماء تلطخ وجهيهما وإن كانت آثارها علي المسجد أكثر وضوحا بينما آثار الحادث لا تزال باقية منها تحطم في زجاج داري العبادة.. داخل الكنيسة لاتزال آثار الصدمة واضحة علي عدد ممن بداخلها من البسطاء أو آخرين يتحكمون في أعصابهم وتصريحاتهم.. لكن كان غريبا أن يقول المهندس هاني ميخائيل عضو بلجنة النظام بالكنيسة إن هناك من كان يعتدي بالشوم علي من يحاولون انقاذ الضحايا وأن هناك من سرق جهاز كمبيوتر من الكنيسة لحظة الحادث مطالبا وسائل الاعلام بمنع نشر ما يسيء إلي الرموز الدينية. كنيسة القديسين تضم قاعة للصلاة ومبني إداريا وماكينة حاسب آلي ودارًا للمسنين وحضانة للأطفال يقتصر روادها علي الإخوة المسيحيين. توضأ عدد من مقدمي واجب العزاء بالكنيسة ثم ذهبوا للصلاة في المسجد المقابل، المسجد مساحته لا تتجاوز 300 متر، زجاج نوافذه تحطم والدماء التي علي واجهته مثلها مازال باقيا علي سجادة بالداخل كان به عدد من أفراد الأمن المركزي يؤدون صلاتهم سألت أحدهم وهو عسكري بسيط يؤدي خدمته العسكرية هل حضرت عقب الحادث قال: «كنت في أول تشكيل وصل والناس كانت ميتة والدم مالي الشارع» هل اعتدي أحد علي من يحاول اسعاف المصابين لمنعهم قال: «لا كان فيه عدد من المسيحيين عاوز الاسعاف ماتشيلش الناس زعلانين علشان اتأخرت لكن المسلمين لم يعتد أحد منهم دول كانوا بيساعدوا في الانقاذ وبعدين مظاهرات كبيرة ملت الشارع والأمن حضر وتشكيلات كثيرة حصلت». ليس مجهولاً «الجاني ليس مجهولاً.. كلنا جميعًا نعرفه، يزرع الفتنة بين المصريين منذ سنوات أمام اعيننا. ليس مهمًا من فجر القنبلة لكن من يجعل من الشارع برميل بارود يملؤه بالمتفجرات ونحن صامتون.. لا يجب أن نقول مسلمين ومسيحيين في مواجهة الارهاب بل مصريين في مواجهة المجرمين الارهابيين يجب أن نتصدي جميعا لمن يلعب بالوطن ويغذي حالة الاحتقان وعلي الدولة أن تفعل القانون.. لماذا تركت د. سليم العوا عندما اتهم الكنائس بأن بها أسلحة ولماذا لم يخرج المسيحيون سلاحاً واحداً عندما تعرضوا للقتل كان علي الدولة أن تحقق معه واتحداه أن يثبت اتهاماته للمسيحيين، نعم لدينا متطرفون أيضا ولابد من محاسبة الجميع لأن مصر أكبر من الجميع ووحدتها لا يمكن اللعب بها. كانت تلك هي تصريحات د.كميل صديق وكيل البطريركية الأرثوذكسية بالإسكندرية خلال لقائه بوفد نقابة الصحفيين الذي ذهب للتعزية وأضاف: لا يجب أن ننكر أن بعض وسائل الإعلام مارست دوراً في تعبئة برميل البارود وشحن الشارع طائفياً فلا يجوز أن تخرج صحيفة صفراء توجه اتهامات كاذبة للبابا شنودة، فالرموز الدينية يجب أن تحترم وأن يمارس الإعلام دوره في التوعية والوحدة وأن تبحث مشاكل الأقباط وتحل حتي يصدقنا جيل الشباب الذي أصبح يصعب السيطرة عليه بأي وعود فقد فقد الثقة في قياداته الشرعية وآبائه المهم توحيد الداخل ومحاصرة التطرف الديني. الهدوء خيم الهدوء علي شوارع الإسكندرية بعد 48 ساعة من الحادث.. المرور منتظم والمظاهرات اختفت.. والمقاهي عامرة بالشباب.. واللافتات المضيئة التي تحمل «مصريون ضد الإرهاب» تتزاين علي جوانب الطرقات.. كانت السماء صافية تميل إلي الزرقة بينما موج البحر هائج وكأنه يعلن عن غضبه لدماء الشهداء. توجهت إلي صاحب محل موبايلات علي الكورنيش علي بعد مسافة كبيرة من الحادث سألته عن حالة البيع والشراء قال تأثرت «الناس قلقة رغم الهدوء ويتوقعون تشديدات أمنية للقبض علي محرضي المظاهرات وكل الجماعات التي يحتمل علاقتها بالحادث بينما علي الكورنيش كان عدد من الشباب والشابات في جلسات عاطفية كل خلا بحبيبه ينظران إلي أمواج البحر بينما الظلام أسدل ستائره لتظهر الأضواء علي الشاطئ وكأنها نجوم تعكس سحر الإسكندرية مدينة السلام أيقونة الحضارات تعلن أنها باقية وأن مصر فوق الجميع سيلاحق أبناؤها أيادي الإرهاب لقطعها واقتلاعه من جذوره. فاختيار مكان الجريمة تم انتقاؤه بعناية شارع ضيق به مسجد مقابل للكنيسة للاستفادة من ردة فعل الغاضبين في إشعال نار الاقتتال بين المصريين المسيحيين والمسلمين.. الشيخ محمد مؤذن المسجد قال: «الهدف الكل يعلمه إشعال نار الفتنة لكن ربنا سلم». الأسكندرية - تحقيق وتصوير : أيمن عبد المجيد صورة المئذنة والكنيسة شارع خليل حمادة .. حيث يتوازي المسجد والكنيسة .. التقطها المصور الشاب عبد الرحمن عز .. وكانت روزاليوسف قد استعانت بها من علي مدونات الانترنت حيث نشرت في أغلبها بدون ذكر المصور .. ولذا لزم التنويه