ثلاثة مهرجانات سينمائية تابعت كلها أكثر من مائتي فيلم تطرح عشرات القضايا والمشكلات التي تمس مصير البشرية في صراع نبيل من أجل الحق والحب والبقاء، كلها تبخرت وأنا أشاهد فيلم.. «بون سواريه»، الذي اصابني بصدمة الارتطام بعمود كهرباء، فهو كابوس فني يكشف أسباب تردي مستوي العروض السينمائية واصابة الصناعة بكل الأمراض! فكرة الفيلم الفيلم يقدم توليفة غنية بمشاهد الرقص والإضحاك، وتدور فكرته حول صراع ثلاث فتيات علي ميراث والدهن، إذ اكتشفن فجأة أن والدهن رجل الأعمال الذي توفي لم يترك لهن إلا المشاكل فقد كان في الظاهر شخصًا محترمًا وفي الباطن مجرد «مرابي» يقترض الأموال من البنوك ثم يمنحها للناس بفائدة أعلي وقد صنع ثروته كلها من هذا المال الحرام ..أولاً لأنه سرق أموال البنوك ولم يسددها وثانيًا لأنه يتاجر باحتياج الناس للمال ويفرض عليهم الفائدة عشرات الأضعاف، وتصطدم الفتيات الثلاث بأزمة كبيرة تجعلهن يقفن عند مفترق الطرق وتصبح ردود أفعالهن اتجاه هذه الثروة متناقضة وخاصة بعد أن تحجز البنوك علي مصنع والدهن ولا يتبقي لهن إلا كباريه يحمل اسم «بون سواريه». الكاتب محمود أبو زيد قدم من قبل، أفلام «العار» و«الذل» و«جري الوحوش» و«الكيف» فكلها تتمحور حول صراع البشر علي المال إلا أنه استبدل ابطال «العار» الثلاثة بفتيات ثلاث ليرصد تفاعلات النفس الإنسانية مع النزوع نحو الزيف والباطل والشر، وكيف يمزق الطمع أصحابه قبل أن يصطدم بالحقيقة التي تؤكد أن المال في النهاية لم يكن إلا وهمًا أو بحرًا من سراب. وإذا كان محمود أبو زيد يتعمد التركيز علي هذه الفكرة في كل أفلامه فإنه في «بون سواريه» يعتمد علي «قلب الشراب» لأنه لم يطور فكرة الفيلم بل تجد أن فكرة وجود الخواجة في المجتمع المصري هي من الرواسب القديمة لأفلام الخمسينيات من القرن الماضي، كما أن هناك فجوة كبيرة بين قصة الفيلم وأدوات تنفيذه علي الشاشة لأن هدف محمود أبو زيد يتمثل في رصد تناقضات النفس الإنسانية إلا أن الفيلم يبدأ من هذا الاتجاه ولا يسير فيه بل يخرج عن القضبان، وتكتشف أن القصة ما هي إلا إطار يربط مجموعة من الأغاني والاستعراضات ويقدمها بشكل فظ يكاد يشوش علي الفكرة الأساسية للفيلم. وبحاسة الناقد يمكن أن تكتشف أيضًا أن هناك خللاً ما لأن شخصية السبكي تطل من خلف الأحداث حيث يكرر القوالب المصنوعة التي سبق أن قدمها من استعراضات هزيلة وأغان سوقية واسكتشات كوميدية لا يتخلي عنها في أي من أفلامه بالإضافة إلي اللعب علي وتر الإغراء و«الإيحاءات الأبيحة»، وليس هذا فقط بل أيضًا افتعال الأحداث والتفافها بلا أي منطق فنحن نجاهد عقولنا لنتوصل إلي النسق الدرامي الذي يجمع مالا يجتمع من المشاهد والمشهيات التي حشرت في سياق الفيلم دون أن يقوم المخرج بتوظيفها فمن موقف إلي آخر يتابع المشاهد فيلما أشبه بسهرة منوعات. ونتيجة هذا الخلل الفني يصبح من الصعب أن يمسك المشاهد بالرسالة التي يتبناها الفيلم فهو يهاجم مدرسة اللغة العربية الداعية إلي الصون والعفاف ويسخر من عقلها وطريقتها في الكلام وفي نفس الوقت لا يرضي عن الأخت الكبري هدي التي فشلت في الدراسة واتجهت للعمل في الكباريه، وفي الوقت الذي يبدأ خلاله الفيلم بجزء تمهيدي يتحول نطاق الأحداث إلي فيلم آخر وكأننا أمام فيلمين تم التلفيق بينهما بلا أي اتساق. إن شخصية «الراقصة» التي تؤديها مروة يمكن أن تحذف من الفيلم دون أن يتأثر سياق الأحداث، فقد تم الزج بهذه الشخصية دون أن يكون لها أي رابط أو داع إلا مجرد تزويد الفيلم بعدد من المشاهد المثيرة التي تجذب اهتمام وفضول الشباب. الأداء التمثيلي تخلت غادة عبدالرازق عن الأدوار ذات الثقل الفني وبدأت تقدم نفسها للجمهور بطريقة أخري تهتم خلالها بمظهرها الخارجي أكثر ما تهتم بالأداء فالهدف هو اللعب علي الإثارة والإغراء وقد جسدت غادة شخصية المرأة المطلقة التي لا تهتم إلا برغباتها الارستقراطية وحبها لنفسها وجمالها الأنثوي الأخاذ بل التشدق بالكلمات الأجنبية بطريقة كوميدية. وتقابلها في بناء الفيلم شخصية الأخت الصغري «إيمان» والتي تجسد دورها مي كساب وهي تؤدي شخصية مدرسة اللغة العربية التي لا تكف عن تقمص روح الشعر القديم والتمسك بالمبادئ والقيم والأخلاق ومن بين هذين الاتجاهين المتعارضين تقف الأخت الوسطي المحامية التي تجسد شخصيتها ملكة جمال الشواطئ «نهلة زكي»، فهي تساند شقيقتها الصغري حينًا وشقيقتها الكبري أحيانًا، وذلك رغم أنها أقلهن علي مستوي الأداء التمثيلي حيث تتعامل مع المواقف والأحداث بوجه خال من أي انفعال، إلا أن المشهد الرئيسي للفيلم هو عندما ناقشا فكرة الحرام والحلال حيث تتهم مي كساب شقيقتها في الفيلم بأنها غير راضية عن رجوعها مع أختها كل يوم في «وش الصبح»، وأن الناس بدأت تتحدث عن هذا الانفلات فترد عليها غادة عبدالرازق بأنه «لولا الكباريه لأصبحنا مرميين في الشارع». في هذا المشهد تصر كل واحدة علي موقفها اعتقادًا منها بأنها علي حق وتظهر عليهما تعبيرات الانفعال، ويكاد يكون هذا المشهد هو الذي يتضمن التمثيل بحق وما عداه مجموعة من الافيهات والحركات الأقرب إلي الاستعراض المسرحي، وليس في الفيلم اهتمام بقدرات الممثل وطاقاته الفنية، بل بطريقته في استكمال اسكتشات التسلية والترفيه والإضحاك. الأغاني يقدم الفيلم أغنياته من باب الرحمة بالمشاهدين ولينقذهم من مشاهد «الهلوسة» التي تنزل فجأة بمستوي الحوار إلي حد الإسفاف والردح المتبادل والذي يستعين بأقبح الألفاظ وهنا يفلت الفيلم من هويته السينمائية ويرتمي في أحضان الحضور المسرحي حيث تتراجع الرؤية البصرية وتحل محلها العديد من الحوارات التي لا هم لها إلا لفت أنظار المتفرج وانتزاع ضحكاته ولو أغمضت عينيك وأنت تشاهد الفيلم لما تأثرت كثيراً، فلا ديكورات ولا تنويعات جمالية تضيف عمقاً للأحداث أو حتي ترتفع بها إلي حدود الرمز والإيماء بل عدد من الأغاني التي ليس لها علاقة بالفيلم تم تجميعها من الأفلام القديمة والسطو علي كلماتها وربما ألحانها أيضا والاستعانة بأغنية شعبية لتكمل هذا الإطار وبغض النظر عن أغنية «سلامتك يا دماغي» نواجه عاصفة أخري من الأغاني التي تفقد الطعم واللون والرائحة والتي تصر مروي علي أدائها وهي أغان عامرة بالابتذال والاسفاف كما أنك تفاجأ داخل سياق الفيلم بإعادة أغنية الفنانة ماجدة «حطة يا بطة» مع تغيير كلماتها بصورة مستفزة وكذلك اقتباس اللحن الخاص بأغنية مها صبري «دقوا المزازيك» وتحويلها إلي أغنية جديدة بعنوان «الهانس في الدنص» وهذا ليس فناً وإنما قتل لأي مساحة إبداع. إخراج مسلوق.. وسطحية واستخفاف بعقل المشاهد تغيب شخصية المخرج أحمد عواض في الفيلم فلا يقدم لنا رؤية بصرية تتفهم روح القضية المطروحة بل يكتفي بتنفيذ رؤية السبكي الذي يشارك أيضا في توجيه دفة الإخراج واستغلال كل مواهب الفنانات ما عدا التمثيل والأداء ويعاني الفيلم مشكلة في المونتاج لأن الاستعراضات ومشاهد التسلية والترفيه تقطع سير الأحداث بشكل مفاجئ وأحيانا نجد مشهدين متعارضين في المضمون ففي الوقت الذي تؤكد خلاله مي كساب لطلابها أن الغني بنفسه وليس بماله يأتي والدها في المشهد الذي يليه ليؤكد للخواجة أن هذا عندهم في اليونان ونكتشف أنه يتحدث في موضوع آخر وهو الحفاظ علي البنات من غدر الرجال ولا نريد أن نحمل الفيلم أكثر مما يحتمل لأنه يحتوي علي العديد من أخطاء الإخراج. إفساد الذوق العام فيلم «بون سواريه» نموذج لوقوع الفن السينمائي المصري تحت طائلة العبث والاتجار فهو لا يتعرض لمشكلة إنسانية يثري بها الواقع السينمائي علي مستوي الفن والأداء بل يقترب بشكل كبير نحو أفلام المقاولات التي يكون الهدف منها هو تزويد المحطات الفضائية بالأعمال وإذا كان السبكية لهم باع طويل في هذه النوعية من الأفلام التي بدأوها منذ الثمانينيات، فإنهم يواصلون المسيرة تبعاً لمقتضيات الوقت الراهن غير أن الفيلم يمكن أن توجه إليه تهمة إفساد الذوق العام لأنه يخرب كل شيء جميل ويسخر من القيم ويشوه الأفكار. ولا يتوقف التشويه عند هذا الحد بل يمتد إلي ازدراء العقائد والمقدسات ففي داخل الكازينو يطلق عادل الفار نكتة خشنة عن نطق الشهادة التي لم تعد تعني التوحيد بل يفاجئنا بأنها «دبلوم صنايع» كما أن الأخت التي تحاول أن تنقذ اختيها الإخريين من الوقوع في مستنقع الكباريهات يصنفها الفيلم بأنها «يوسف وهبي» وكأن عميد المسرح العربي قد صار عنواناً للاستهزاء ويتم وصف الفتاتين داخل الفيلم بأنهما «اليتيمتان الداخلتان إلي النار» والفيلم كله عبارات مساطيل لا تقدر قيمة ولا تراعي أي هامش من الإنسانية فكيف تسمح الرقابة لهذا العمل أن يخرج بهذه الصورة التي تدوس بأقدامها علي مأساة اليتم والفن والقيم والأخلاق وهل نترك للسبكي مهمة تشكيل وعي الأطفال الصغار وفق قاموس الكباريهات! لابد من وضع سقف فني لمستوي الأفلام لا تقبل الرقابة علي المصنفات الفنية بأي فيلم دون مستواه لأن إطلاق العنان للنزعات التجارية لا يفيد الصناعة بأي حال من الأحوال ففي السنوات العشر الأخيرة بدأت السينما المصرية في الانهيار من خلال أفلام الدم والعنف والقتال وها هنا نصل إلي محطة أفلام «الهلوسة» فمن يوقف هذا التدهور والانحدار؟