كنت طفلاً ولكنني كنت فعلاً أعشق الثورة المصرية وأكره انجلترا وفرنسا ومتأكد من الوحدة العربية لابد أن تكون من المحيط الأطلسي إلي الخليج الطريق كان واضحاً وضوح الشمس.. القضاء علي الاستعمار وأعوانه في الداخل والخارج.. أما بالنسبة للسودان فهذا موضوع مفروغ منه.. كنا نغني في الصباح قبل الدخول إلي الفصول وبعد تحية علم مصر وفيما بعد علم الجمهورية العربية المتحدة ونقول «عاشت مصر حرة والسودان.. دامت أرض وادي النيل سلام.. اهتفوا وقولوا السودان لمصر ومصر للسودان».. وماذا الآن؟ حتي السودان لم يعد للسودان كان الله في عون رئيس جمهورية مصر فهو الرجل الذي يتحمل مسئولية أكبر دولة عربية منذ زمن طويل أولا عندما اختاره الرئيس الخالد جمال عبد الناصر ليكون من المقربين له ثم اختاره الرئيس الشهيد أنور السادات ليكون نائباً له ثم اختاره الشعب المصري في أصعب ظروفه التاريخية ليكون أميناً له. لقد حذر الرئيس المصري بكل الطرق وبدون التدخل في شئون دول عربية مستقلة من عواقب التطرف في السياسة وفي الفكر ولا حياة فيمن تنادي وها هي النتيجة المؤلمة إلي درجة تكاد تكون غير محتملة في العراق وفلسطين والآن في السودان. إذا كان المسئول عما حدث في السودان هو الحزب الشيوعي السوداني الذي كان في يوم من الأيام من أكبر الأحزاب الشيوعية في العالم العربي فأرجو ألا يسامحهم الله علي ذلك.. أما إذا كانت الأحزاب الإسلامية هي المسئولة عن هذه المأساة العربية الجديدة فحسبي الله ونعم الوكيل. أنا لا أعرف من هو المسئول الأول ولا حتي أريد أن أعرف.. أنا أعرف فقط من هو المستفيد الأول.. المستفيد الأول هو نفس الكيان العنصري الذي نعرفه جميعاً ويعيث في الأرض فسادا. ولكن الخطأ الأساسي هو عدم وجود سياسة عربية واحدة وكلمة عربية واحدة علي الأقل في الشئون الخارجية والمصيرية للعالم العربي. مما لا شك فيه أن الانفصال هو شر أرحم من شر أكبر وهو حرب أهلية في السودان لا يستفيد منها سوي تجار السلاح وأصحاب مصانع الموت لذلك كان موقف السياسة الخارجية المصرية موقفاً منطقياً بقبول الأمر الواقع وتحجيم الأضرار وتخفيض الخسائر إلي أقل ما يمكن. هذه هي الواقعية التي لابد أن يقبلها كل عاقل مهما كانت مرارتها. أنا أعترف أنه لم تعد في مقدرتي تحمل مرارة أكثر من ذلك وأرجو من الله سبحانه تعالي أن أفارق هذه الدنيا قبل أن أري أي حدث آخر مثل هذا الحدث ينال من العالم العربي.. كذلك أدعو الله سبحانه وتعالي أن يحفظ لنا مصر وأن تظل أمانة في أيدي العقلاء فالعقل هو أساس الإيمان والإسلام، يقول المثل الشعبي «ربنا محدش شافه ولكن عرفناه بالعقل».. طبعا لم ير أحد مأساة التقسيم السوداني منذ 20 عاماً ولكن كان من الممكن أن نعرف ذلك «بالعقل» مقدماً ونفس الأشياء تنطبق علي عديد من المسائل فيما يخص مستقبل جمهورية مصر العربية.