فى قراءة التاريخ هناك 3 مناهج، منهج يرى أن حركة التاريخ طوفان يتدفق ومصادفات تلتقى أو تفترق ومن ثم يحدث ما نسميه تيار التاريخ. مدرسة ثانية ترى أن التاريخ هو الرجال العظام الذين ظهروا فى بعض اللحظات، عباقرة، ملوك، أو ديكتاتوريين، هؤلاء هم صناع التاريخ، والمدرسة الثالثة ترى أن التاريخ له عقل. المدرسة الأولى التى ترى أن طوفان التاريخ يجرى كمصادفات أظن أنهم يحكمون على قصة البشرية كلها أنها مسألة عبثية، والمدرسة الثانية التى ترى أن مجموعة أبطال ومشاهير ورجال أقوياء هم من يحركوا التاريخ أظن أيضا أنها تحكم على البشرية أن تظل بلا فعل، كسولة حتى يجىء من ينقذها وأنا أظن أن هذا تجنٍ على البشرية. المنهج الثالث منهج أن التاريخ له عقل، وأنا واحد من الذين يؤمنون بالمنهج الأخير، لكن المناهج الثلاثة مفتوحة. فيما يتعلق بأن التاريخ له عقل، أنا أعتقد أنه إذا كنا نعلم أو نوافق أن حركة التاريخ هو سعى الشعوب إلى أمنها ومصالحها وحريتها وإلى التعاون أو الصدام مع غيره أو أنه فى سعيها ينظمها بما أنه مطالبها محددة واضحة، المصالح والأمن والحرية إذن فى مسالك لهذه الحركة التاريخية تجعل الحكم عليها وفهما مقبولا، ولكن القضية تنشئ مرات من أنه إذا كنا نقول إن التاريخ له عقل فمسألة مهمة جدا إن عقل التاريخ لا يمكن أن يعطى فعله إلا إذا كان هناك بشر يواكبون هذا الفعل ويفهمون ويترجمون إشاراته ويحسنون لغته ويحسنون التصرف وفق قواعد ومنطق، لكن المشكلة عندنا فى مصر فى مرات كثيرة جدا التاريخ أعطانا فرصا بلا حدود لكن مع الأسف الشديد فى مرات كثيرة، الأهواء غلبت التاريخ. فى هذه الفترة التى أتكلم عليها وحرب الاستنزاف مستمرة بقسوة على الجبهة، وغارات العمق فى الداخل، أنا أتحدث على سنة القلق 1969، والعمل السياسى فى الداخل والخارج على أشده وشعوب الأمة مستنفرة، أظن أننا واجهنا موقفا كان يقتضى تفكيرا وهو ما حدث. عندما رجع د.محمود فوزى من واشنطن التى سافر لها لاستكشاف رأى وموقف وسياسة جديدة بعدما جاء نيكسون لإدارة جديدة بعد جونسون وهو رئيس كان لأسباب كثيرة يناصبنا العداء. لكن أيضا كان يوجد عنصر الدخول اليهودى المؤثر جدا على الرئيس نيكسون، وهذه هى النقطة التى نريد أن ندرسها فى زيارة د.محمود فوزى، أو على الأقل ضمن عملية الاستكشاف الواسعة التى قام بها د. فوزى من الفترة من أواخر مارس إلى أوائل أبريل 1969، وهى كانت سنة صعبة جدا. لكنه رجع من واشنطن وهو قلق جدا، ويقول إنه واضح أمامه فيما هو مقبل فى إدارة نيكسون وجود تناقضات وصراع بادئ أمامه وهو لمحه وأنا أشرت إليه والوثائق أشارت إليه، يوجد صراع قادم بين البيت الأبيض ومجلس الأمن القومى، فالبيت الأبيض بالتحديد وفيه هنرى كسينجر وهو يهودى وهذا مش عيب، لكن المشكلة فى هذا الهوى والميل وهذا التحيز الفادح لبعض اليهود إلى إسرائيل، وخطأ أنهم يوفقون ويتوأمون بين إسرائيل وتاريخ اليهود، لكن هذا حدث والغريب أن الرئيس نيكسون متنبه إلى ذلك التأثير المدمر على إدارة سلفه، وجهز فى وثيقة، عرضتها فى تسجيل بصوته يتكلم عن عدد اليهود فى كل مكان، ليس فقط فى إدارة جونسون السابقة على إدارته لكن أيضا فى الإدارة الأمريكية، ويقول لمساعده إنه مستغرب أن اليهود فى كل مكان، لكن ما لم يتنبأ له نيكسون، أو ما لم يستطع التحدث بدرجة كافية أنه هو الذى أتى بكسينجر. وأنا أريد أن نفرق بين كسينجر فى قيمته العلمية وولائه لبلده أمريكا وبين كسينجر فى تحيزاته الظاهرة. وشئ غريب جدا أنه أرسل لى رسالة أنه يعرف أنى أهاجمه، والحقيقة أنى لا أهاجمه لكنه هو لايزال يحتفظ لى بذات الود الذى كان بيننا ذات يوم عندما كنا نتعامل وجها لوجه أثناء حرب أكتوبر، وكنا نتعاون ولكن نتعاون بالخلاف، لأنه فى التفاوض أو الاتصالات السياسية فيها تعاون لكن تعاونا من مواقف متعارضة. لكن أنا أعتقد أنه حقيقى ليس مسألة كراهية أنه انتصر وأنا لم أستطع أن أحقق ما تمنيت أن أحققه، لكن هذا لا يدعونى إلى كراهية وهجوم، فالسياسة ليس فيها هذا الكلام، السياسة فيها معارك من يفوز يفوز ومن ينتصر ينتصر لكنها لا تستوجب عداوات. على أى حال نيكسون أتى إلى البيت لأبيض برجل هو يعلم تحيزه إلى إسرائيل لكنه وأنا أظن هو أراد بمجيئه أن يرضى أطراف داخل أمريكا يسمونها القوة ذات الشأن المؤسسة فى أمريكا. رجع د.فوزى متخوفا من هنرى كسينجر، مع أنه لا أحد كان يدرك فى ذلك الوقت أن هذا الرجل فى يوم من الأيام الذى كان فى الظل فى هذا الوقت سوف يمسك فى يده 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط. لكن كل هذا فى ذلك الوقت كان بعيدا فى الغيب، لكن فوزى رجع وهو يرى أن هناك إدارة أمريكية جديدة وأن الإدارة الجديدة لا داعى أن يعلق عليها أمل بأكثر مما هو ممكن أو ضروى، لأن حقائق الأحوال بالنسبة للسياسة الأمريكية لا تدعونا إلى أمل كبير، وأنه فى رأيه أن العمل هنا فى الداخل وعلى الجبهات، والعمل على الجبهات كان فى واقع الأمر عملية متشعبة ومرهقة وكبيرة جدا، وواضح من الكلام الموجود والوثائق التى عرضتها من قبل، العمليات فى هذا الوقت قد تكثفت إلى حد كبير لأنه فى هذا الوقت الذى ذهبت فرق من الضفادع البشرية إلى ميناء إيلات وأغرقت 3 قطع بحرية فى ليلة واحدة. غارات العمق بدأ بعضها ينجح والآخر لا ينجح لأنه يوجد مقاومة ويوجد مواقع حصينة والجبهة كل يوم فى عملية عبور بشكل أو بآخر، وكل يوم يوجد دوريات والنار مشتعلة على الجبهة، رغم العمل السياسى والعمل العربى لكن المعركة صعبة جدا. أمامى 4 وثائق أمريكية وأنا أريد أن أعرضها لأنها تظهر كثير جدا مما كان جاريا ذلك الوقت، الوثائق كلها تقريبا أو ثلاثة منها بتوقيع توماس شوز رئيس إدارة التحليل والمخابرات والمعلومات بالخارجية الأمريكية، يقول فيها إن إسرائيل بدأت تشعر بازدياد الضغط العسكرى المصرى وتصاعده وإنها الآن تفكر فى عملية واسعة ضد مصر قد تتضمن هجوما شاملا على الجبهة بعبور قناة السويس فى حماية صواريخ من ناحيتها، لكنها تفكر فى عملية تدخل بها إلى العمق وتحتل مواقع الضفة الغريبة من قناة السويس ولكى تضرب قوات الجيش الرئيسة المتركزة فى الضفة فتنهى الموضوع. والتقرير يقول إن الحكومة الإسرائيلية ووزير الدفاع الإسرائيلى موشيه ديان فى ذلك الوقت، طلب من كبير مراقبى الهدنة الجنرال هوت بور أن يبلغ الحكومة المصرية إذا لم توقف هذا النشاط فالحكومة الإسرائيلية لن تقبل عملية الاستنزاف وإنما سوف تقوم بضربة مؤثرة قد تندم عليها الحكومة المصرية إذا لم تراجع موقفها، وأن استمرار هذا الاستنزاف إسرائيل لن تستطع أن تحتمله. لكن الجنرال هوت بور، كبير مراقبى الهدنة لا يستطيع أن ينقل للحكومة المصرية إنذارا، لكن ديان طلب منه قائلا: أرجوك تبلغهم حالتنا الفكرية، وحالة إسرائيل النفسية والعقلية، وقابل الجنرال هوت بور محمود رياض وزير الخارجية فى ذلك الوقت ولم يسمع منه أحد، ولم يهتم أحد لرسالته، لأنها كانت معركة مصير ونحن مصرون على حرب الاستنزاف والإعداد فيها لمعركة عبور والفرق الجاهزة للعبور والأمور واضحة، وإسرائيل تستعد بعبور مضاد، هنا نحن أمام موقف شديد الحرج. أطلق ديان تصريحا أن إسرائيل ليس أمامها خيارات لأنها لا تستطيع أن تقبل الاستنزاف الذى يؤثر عليها ويستهلك وقتا وموارد وأرواحا وهو مستمر وإن كانت مصر متحملة لوحدها فإسرائيل لا تستطيع. رئيس المخابرات فى وزارة الخارجية الأمريكية توماس شوز كان يخشى أن تأخذ المصريين النشوة بما حققوه فى حرب الاستنزاف، وهذه هى الوثيقة الأولى. الوثيقة الثانية تقول أيضا بتوقيع توماس هيوز فى يونيو 1969 إن مصر تشجع عمليات الفدائيين، والفدائيون بدأوا يعملون داخل إسرائيل أو بالقرب منها لأنه فى ذلك الوقت بدأت عمليات خطف الطائرات. يقول رئيس المخابرات فى وزارة الخارجية: إن المنطقة تندفع إلى موقف الاستقطاب الحاد وأنه إلى آخر مدى يخشى أن يؤدى إلى عواقب وخيمة. هذه الوثيقة الثالثة تقول: إن مصر تحاول عمل نشاط سياسى كبير فى العالم العربى، وأنها تحشد وراءها قوى، مصر وقتها كانت دعت لمؤتمر لدول المواجهة ضم مصر والأردن وسوريا والعرق وأن مصر فى ذهن القيادة المصرية تحشد لأنها تريد أن تبدأ فى عملية عبور كبيرة قبل أن تدخل الطائرة الفانتوم الأمريكيةالجديدة فى الخدمة، لأن فى ذلك الوقت جونسون أعطى إسرائيل 36 طائرة فانتوم وأعطاها 70 طائرة سكاى هوك، وسكاى هوك كانت دخلت الخدمة والفانتوم على وشك أن تدخل الخدمة، ويقول إن مصر تفكر جديا فى أن تسبق عملية الفانتوم بعملية عبور موجهة إلى الجبهة الإسرائيلية وأن هذا خطر، كما يقول إن مصر قلقة جدا لأنه فى ذلك الوقت تنحى الجنرال ديجول فى فرنسا الذى حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. كاتب التقرير يقول إن القيادة المصرية لا تريد فقط أن تسبق الفانتوم، ولكن تريد أن تسبق ابتعاد ديجول، لأن أى حكومة تأتى من بعده قد ترفع حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. الوثيقة الرابعة هذه المرة من السفير الأمريكى بالقاهرة برجس، يقول لوزارة الخارجية الأمريكية إن الإسرائيليين يفكرون خطأ، حيث إن تكثيف غارات العمق يتصورن أن يكسروا معنويات الشعب المصرى بها وإنهم يفرقوا بين القيادة المصرية والشعب المصرى. لأن الشعب المصرى منذ أيام الهكسوس وهو كاتب هذا الكلام أثبت أنه فى موضوع المقاومة، وموضوع الاحتمال هذا يقال إن الشعوب العظيمة هى القادرة على الاحتمال بس أكيد الاحتمال له نهاية، ويقول برجس مع إننا لا نشجع أى خرق لوقف إطلاق النار لكن أخبروا إسرائيل أن تقلل من غارات العمق لأنها تدفع الشعب للمقاومة مع القيادة فى وقت واحد لأن الشعب سيقاوم مع القيادة، ويزود عناده ضد الإسرائيليين، لكن دعهم يزودون العمليات العسكرية ويركزون على الجبهة وليس غارات العمق. هنا يبدو أنه فى تصاعد كبير جدا فى الموقف مع قرب انعقاد مؤتمر قمة دول المواجهة فى القاهرة تقرر له 1 سبتمبر 1969، الموقف العسكرى على الجبهة، موقف العمق، الموقف حساس مثل عملية ضرب قطع بحرية فى إيلات فى يوم واحد. هنا فى هذه الفترة يوجد شباب عملوا معجزات مثل إبر هيم الرفاعى ود.على نصر الذى كان فى الضفادع البشرية، وهؤلاء الشباب تحملوا مخاطر فى قوات الكوماندوز وكلهم أبطال لم يغن لهم أحد. لكن فى هذه العمليات كان واضحا أن كل حرب الاستنزاف تقلق إسرائيل إلى درجة تدفع إلى التفكير فى ضربة كبيرة كما أن حرب الاستنزاف ترفع الروح المعنوية للشعب المصرى. عندما جاءت الدعوة لقمة عربية أعلن المشاركة فيها الملك حسين ملك الأردن والرئيس نور الدين أتاسى رئيس الجمهورية السورية والمفروض كان يأتى أحمد حسن بكر رئيس العراق لكنه كان مريضا فأرسل السيد مهدى صالح عماش وزير الدفاع، وواضح هنا أن مصر لديها ما تقدمه إلى دول المواجهة، وواضح أيضا أن مصر لديها ما تقدمه إلى دول المواجهة، ولديها طلبات محددة من العراق فيما يتعلق بتدعيم الجبهة السورية، وعنده طلبات موجهة من سوريا فى الجبهة السورية وعندها خطط وما تقدمه فعلا تعرضه على الدول المشاركة. صباح يوم المؤتمر فجأة ظهر عنصر جديد، حيث أعلن فى راديو بنغازى عن قيام انقلاب فى ليبيا، وانقلاب فى هذا الوقت فى ليبيا واستيلاء شباب على السلطة بهذه الطريقة المفاجأة، أحدث فى مصر آثار، وأحدث دوى فى العالم لعدة أسباب، وفى هذا التوقيت بالتحديد موضوع الثورة الليبية كان أكبر جدا مما يتخيله أحد، وأتذكر أن كل الوفود المشاركة فى مؤتمر القمة الرباعية تابعت ما حدث فى ليبيا. والتقطنا نص البيان وقرأه أحد أعضاء مجلس إدارة الثورة فى ذلك الوقت وكان يقول: أيها الشعب الليبى العظيم، تنفيذا لإرادتك الحرة وتحقيقا لأمانيك الغالية واستجابة صادقة لندائك المتكرر الذى يطالب بالتغيير والتطهير ويحث على العمل والمبادرة، قامت قواتك المسلحة بالإطاحة بالنظام الرجعى..... إلى آخره. كان يوجد تصور فى هذا الوقت والعرب كلهم منشغلون بهذا الصراع وحدث وفاق فى السودان، أن عهد هذا النوع من الانقلابات قد فات، وأنا كنت كتبت قبلها بسنة وقلت إن العمل العربى لابد أن تعتمد على الجامعة العربية، لأن العالم العربى كان ينتقل من لحظة ثورية قبل 1967. إلى لحظة أخرى تستوجب وحدة العمل القومى، وهذا لابد أن تستبعد حدوث انقلابات وثورات لأن الظروف غير مواتية. ولابد أن ننظر لواقع ليبيا، فأنا أمام بلد على البحر المتوسط، وليبيا مساحتها أكبر من مصر ب3 مرات على الأقل، وبها خليج سرت وهو أهم خليج موجود، وبلد منتج للبترول تنتج نحو ما بين 60 و65 مليون برميل فى السنة، بإيراد قدره 11 بليون دولار، وعدد سكانها محدود، وبترولها من النوع الخفيف يصلح للطائرات ويصل إلى أوروبا مباشرة، ولا يحتاج إلى رأس الرجاء الصالح، فالبترول الليبى فى هذا الوقت كان مهما جدا، فليبيا كانت جزءا مهما جدا على لعبة شطرنج، فليبيا فى هذا الوقت قلعة مهمة من القلاع ولم يفكر فيها أبدا، ولم يخطر على بال أحد أبدا أن هذا البلد يحدث به تغيير. الساعة 9 عند بدء اجتماع الوفود أول يوم فى مؤتمر المواجهة الكل كان يتحدث عما جرى فى ليبيا، وكلمنى الرئيس جمال عبدالناصر فى صباح اليوم ده، وهو كان قرأ بيان الثورة وقال إيه ده. وسألنى عبدالناصر «هذا معقول. ما حدث فى ليبيا؟، وهويتهم إيه؟»، واضح من الاتجاه أن هويتهم عربية، وكان فى ذلك الوقت يوجد تياران متصارعان هم التيار القومى ويوجد به تياران هما البعث، ودخل البعث فى مشاكل كبيرة، ويوجد حركة القومية العربية التى تمثلها مصر فى ذلك الوقت. كان السؤال هنا فى أى اتجاه هؤلاء الثوار يتجهون، هل هم أقرب إلينا أم البعث أو الإخوان المسلمون، ومن الواضح أنهم ليسوا أقرب إلى الشيوعيين، لأنه بجوار التيار القومى الموجود فى دمشقوالقاهرة والعراق، أين هما هؤلاء الثوار؟. ليبيا بالأوضاع التى شرحتها جائزة قى منتهى الأهمية ولو أمكن ما لديها يوظف فى المعركة لأصبح كسبا بلا حدود، خصوصا فى مجال العمق الاستراتيجى والتأثير السياسى طبعا، لان فى هذه اللحظة المحتدمة، وعندنا الإدارة الأمريكية لا نثق فيها ولكن خطواتها الأولى. لا أستطيع أن أفسر حقيقة كيف كان وقع ما حدث فى ليبيا فى تلك اللحظة فى هذا المناخ، اليوم ننظر ليبيا بأن العقيد القذافى فعل كذا وكذا، وبليبيا تغيير مهم وقع فى الخريطة الاستراتيجية للصراع العربى الإسرائيلى الواصل إلى لحظة احتمال تفجير أكبر مما كان مسبوقا. الاجتماع الأول لدول المواجهة لم ينعقد حتى العاشرة صباحا، فدخل فقط القاعة مساعدى الوفود ولكن لم يدخل الرؤساء، الرؤساء ووزراء الخارجية كلهم يجرون اتصالات جانبية، وهذا واضح فى التسجيل لأن الجلسة كانت مسجلة. الرئيس جمال عبدالناصر كلمنى وقال لى أنت شايف الثوار الليبيين تبع أى اتجاه؟ فقلت له أنا أشعر أنهم مثل تيارنا القومى، لأن البعثيين عادة يرتبوا الشعارات ب«الوحدة والاشتراكية والحرية»، ولكنا كنا نقول الحرية أولا، لأنه لا يستطيع أن يتخذ قرارا وحدويا أو قرارا اجتماعيا إلا بلد حر، وقلت له إنى أرى فى الترتيب قد يكون له معنى وقد لا يكون أن هؤلاء الثوار الليبيين استخدموا شعار الحرية والوحدة ولم يستخدموا الاشتراكية ولكنهم استخدموا العدالة الاجتماعية، لكن هذا لم يقنع الرئيس عبدالناصر، ولكن هذا كان لدى نوع من التمنى أكثر من التحليل. الساعة 11 ظهرا كلمنى عبدالناصر، وقال لى الواضح إن رأيك قد يكون فيه بعض الصواب، لأنه وصلت برقية من السفارة المصرية ببنى غازى تقول إن أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ويدعى آدم حواس طلب أن يجىء مندوب مصرى ممثل لعبدالناصر ليلتقى مجلس قيادة الثورة الليبية. الساعة 4 مساءا كلمنى وقال لى هنرد عليهم، لا أعرف نرسل لهم من؟ لو أرسلت محمود رياض قد يكون ملفتا كوزير خارجية، فطلب عبدالناصر من وزارة الخارجية أن تستفسر من القنصلية المصرية أن يستفسروا من مجلس قيادة الثورة الليبية أن يوضحوا عايزين من بالضبط؟ كلمنى عبدالناصر الساعة 8 وهو يضحك وقال الظاهر إنهم عايزينك أنت، فسألته أنا؟، قال: البرقية أمامى، ولازم تسافر الليلة إلى بنى غازى، وللأسف طائرة عسكرية هتأخدك. فأنا سألت ليه أنا؟؟ فقال لى الظاهر بيسمعوا مقالاتك فى صوت العرب، وممكن سمعوا عن صداقة بينك وبينى، وأنا أفضل أن نجعل الاتصالات غير رسمية، لأنه لا نريد أن نضغط عليهم الآن أمام العالم، بأى موفد رسمى يذهب فى هذه اللحظة. الساعة 10 مساء ذهبت إلى منزلى لأجهز حقيبتى، وطلب منى أن أخذ مصور معى، قلتله أنا فعلا معى الأستاذ محمد يوسف، لأنه عايز يشوف الشباب دول وعايز صورهم، وكيف يبدو هؤلاء الشباب؟ الساعة 10 مساء ركبت السيارة وكان الرئيس عبدالناصر قال لى هيسافر معى شخص من جهة أظنها المخابرات، وفعلا وجدت الأستاذ فتحى الديب موجود فى الطائرة وكنت أول مرة أراه، والطائرة لم يكن بها غير محمد يوسف المصور وفتحى الديب وأنا، وبدأت رحلة غريبة جدا، لأنى مش عارف رايح ليه. عبرنا الحدود المصرية بعد ساعة ونصف الساعة، وجاء الطيار إلى وقال لى إن هذه هى قاعدة العظم وكان بها أضواء قوية جدا، وناداه مساعده قاله له ورد إلينا إشارة من قاعدة العظم يسألون من أنت؟ قلنا طائرة مصرية تهبط فى مدار بنغازى، ولم يردوا علينا لكن بعد فترة قليلة أرسلوا إشارة قالوا فيها إن مطار بنغازى معطل، وفعلا مطار بنى غازى والمدينة أضواؤها خافتة، ولا يوجد آثار لمطار، وفجأة أنيرت مصابيح سيارة على مهبط الطائرة. وعند النزول، لم يكن يوجد خدمة مدنية، فأحضروا سلم خشب جنب الطائرة وأخبرونا أنه لا توجد خدمة مدنية بالمطار، ونزلنا. وجاءت السيارة التى كانت توجه ضوءها إلى المطار ونزل منها ضابط عرف نفسه أنه آدم حواس عضو مجلس قيادة الثورة، واعتذر عن وضع المطار. قال لى سنذهب لمقابلة الجماعة فى القنصلية المصرية فى بنغازى، وركبنا السيارة وحاولت أن أتحدث معه، وهو لم يتكلم لكن قال سنذهب للقنصلية المصرية. وصلنا ووجدت شخصا عرف نفسه بالرائد مصطفى الخروبى الرجل الثانى فى الثورة، وأنه عبدالحكيم عامر بتاع الثورة دى، قلتله بلاش فعبدالحكيم عامر راجل كويس جدا، لكن انتهى نهاية مآسوية للأسف، وطلبت منه يقول لى أكثر عن الثورة فقال لى لما «هو» ييجى. بعد وقت قليل سمعنا صوت سيارات، ودخل علينا شاب مع اثنين من الضباط، وكان نحيفا وصغير السن جدا، ورحب بى، وعرفت أنه «هو». ولأول مرة يقول لى ليه اختارونى أنا لأنهم قرأوا مقالا لى قلت فيه إننا لا نريد القومية العربية أن تعتمد على مغامرات الليل وبيان الفجر، وتأملنا فيه وسألنا أنفسنا هل ما نفعله صح أم خطأ فى ضوء ما كتبته فى المقال، ولكننا قررنا المضى فى طريقنا وما عزمنا القيام به. قلت له انتوا عملتوا أكتر جدا من اللى الكل يتصوره، ولا أحد كان يتوقع أن الجيش الليبى به ضباط أحرار فى الظروف دى، وقالى أرجوك احنا اسمنا الضباط الوحدويين الأحرار. أنا الحقيقة أنظر له ولمن حوله أتذكر وضع ليبيا، أتذكر أن أى تصور عن ثورة مستحيل فيوجد قاعدة بريطانية هنا بجانب بنى غازى، وقاعدة أمريكية بجانب طرابلس، والجيش الليبى فى ذلك الوقت 9 آلاف جندى، وقوة حرس البوليس 12 ألف، وقوة حرس البوليس العادى 18 ألف، إذن كيف حدث انقلاب، وبدأت أسأله وأنا غير مصدق. لكن القذافى فيما بعد لقب نفسه ملك ملوك أفريقيا، وممكن ينطبق عليه لقب صاحب الجلالة الإمبراطورية، وقلت له إن الذى فعلتوه كان أملا مرجوا فى هذا الوضع الاستراتيجى للمنطقة، لكنه أمل مستحيل وأن يتحقق بهذا الطريقة أنا مش متأكد. وسألته القواعد العسكرية بتعمل إيه، قاعدة العضم وهى قريبة من بنى غازى، وقاعدة ويلاس وهى داخلة فى العاصمة طرابلس، والبحر الأبيض مكشوف من للأسطول الأمريكى السادس، وأبديت قلقى مما يمكن أن يجرى، فقال لى إن كل حاجة مؤمنة، طلبت منه احتمالات التدخل وطلب منى أن أقول احتمالاتى للتدخل، وجلست أسمعه إلى الفجر تقريبا، وقررت أغادر بعد 3 ساعات معه. وعندما رجعت وجدت فى انتظارى بالمطار السيد سامى شرف، وأبلغنى أن أذهب للرئيس عبدالناصر قبل الذهاب لمنزلى، فدخلت مكتب عبدالناصر، وقالى إيه؟ قلتله أنا حقيقى شديد الأسف، لكن أظن أن عندك مشكلة بلا حدود، قالى إيه هما بعثيين؟ قلت له لأ أسوأ، المشكلة أنه عندك قدر من البراءة، حيث بدا الشباب الليبيين أمامى وكأنهم موجة عذراء طلعت من وسط البحر فى موقف غير معقول، هم شباب فى منتهى البراءة يواجهون موقف فى منتهى الصعوبة فى أجواء فى منتهى الخطر إقرأ أيضاً حوارات هيكل (الجزء الأول) حوارات هيكل (الجزء الثاني) حوارات هيكل (الجزء الثالث) حوارات هيكل (الجزء الرابع) حوارات هيكل (الجزء الخامس) حوارات هيكل (الجزء السادس) حوارات هيكل (الجزء السابع) حوارات هيكل (الجزء الثامن) حوارات هيكل (الجزء التاسع) حوارات هيكل (الجزء العاشر) حوارات هيكل (الجزء الحادي عشر) حوارات هيكل ( الجزء الثاني عشر) حوارات هيكل ( الجزء الثالث عشر) حوارات هيكل (الجزء الرابع عشر) حوارات هيكل (الجزء الخامس عشر) حوارات هيكل (الجزء السادس عشر) حوارات هيكل ( الجزء السابع عشر) حوارات هيكل (الجزء الثامن عشر) حوارات هيكل( الجزءالتاسع عشر) .