تصمد أهرامات المصريين القدماء لأعاصير الزمن، فهي من أعاجيب الدنيا التي لايزول سحرها وما ترمز إليه من المعاني والقيم. وقد حبا الله مصر هرما رابعا، استقبلته الحياة بالتهليل والترحيب في الثلاثين من ديسمبر سنة 1900، وكان الميلاد في قرية «طماي الزهايرة»، والنشأة الأولي في حقولها وبين فلاحيها الفقراء، ثم تبدأ الانطلاقة إلي أي وكل مكان، دون نظر إلي الزمن ومعاييره؛ إنها أم كلثوم. قرن وعشر سنوات بعد ميلادها، وقرون أخري ستأتي وتنتهي، وتبقي أم كلثوم قيمة فريدة لا يطولها الذبول ولا تعرف الوهن، فهي يانعة نضرة طازجة، لا ينتهي سحرها الأخاذ ما بقي العشاق والمحبون، وما بقيت القلوب علي خفقانها. لا تتوقف طوابير المواهب المصرية عن الظهور كل يوم، لكن أم كلثوم أكبر وأعظم من أن تكون مجرد موهبة أو فنانة عبقرية، فالتعريف بها يتطلب جهدا خارقا ولغة مختلفة ومنهجا غير مسبوق، وبعد البحث والتنقيب، لن يجد الجادون من الدارسين إلا التسليم بحقيقة لا مهرب منها، وهي أنه لا تعريف يليق بكوكب الشرق وسيدة الغناء، إلا أنها أم كلثوم! عيد ميلادها فرحة لكل مصري وعربي، ومن الغريب بحق أن وسائل الإعلام تحتفي بها في ذكري غيابها، الذي لا يحمل شيئًا من معاني الغياب. أليس أن الأولي هو الاحتفال بيوم ميلادها، الذي يمثل علامة دافئة لروعة الإبداع؟! الفلاحة المصرية الجميلة المشرقة، ذات البهاء والضياء والحضور، أم كلثوم إبراهيم البلتاجي، واحدة من نساء مصر العظيمات الخالدات، ولعل الذين يسفهون المرأة ويحطون من شأنها، تحت شعارات دينية واجتماعية متعنتة، يتأملون بعين الإنصاف ما قدمته العظيمة ثومة، ملاك السعادة ورسول الحب، ثم يديرون الوجوه خجلا، فهي بألف ألف رجل من عظماء الرجال. في الصباح والمساء، والصيف والشتاء، وفي لحظات الحزن النبيل والفرحة الطاغية، تشرق أم كلثوم دائمًا لتعبر عن حالات الإنسان جميعًا، فهي خلاصة وجوهر الرحلة الإنسانية، حيث الغناء لله والوطن والحب، وهي المترجمة الأمينة الصادقة لمعني أن يكون الإنسان إنسانًا. أم كلثوم.. يا هرم مصر الرابع.. دمت لنا.