لو أن مكتبة الأسرة لم تنشر سوي كتاب' فجر الضمير', علي نطاق واسع وبسعر في متناول الجميع, لكفي فخرا للسيدة الفاضلة سوزان مبارك, صاحبة مشروع القراءة للجميع. فليس أفضل من هذا الكتاب ليعرف المصريون قدر مصر, وإسهامهم التاريخي الأخلاقي قبل الحضاري, الذي لا ينبغي أن ينسوه في أي وقت وآن, إن أرادوا تعزيز الثقة بقدرتهم علي صنع المستقبل. وقد قرأت' فجر الضمير' في سياق بحثي عن' مصر والمصريين', بعد أن كرست شهورا طويلة لقراءة موسوعة مصر القديمة, التي كرس سنوات طوالا في وضعها سليم حسن. وما أروع وأصدق ما سجله رائد علم الآثار المصري في مقدمته لترجمة' فجر الضمير', حين يأسرك قوله بتواضع العلماء إنه:' لو رزقني الله علم الأستاذ بريستيد, وطول خبرته بدراسة أمم الشرق القديمة عامة ودراسة آثار مصر خاصة, لما كان في وسعي أن أدون خيرا من هذا الكتاب, وقد أتهم بمحاباة بلادي'! وقد كتب بريستيد يقول مخاطبا الأمريكيين:' إنه يجب علي نشء الجيل الحاضر قراءة هذا الكتاب, الذي يبحث في تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير في مصر', وكتب سليم يقول مخاطبا المصريين إنه' من ألزم الواجبات علي كل مصري مثقف أن يستوعب ما احتواه, لأنه تاريخ نشأة الأخلاق في بلاده, التي أخذ عنها كل العالم'. وأتمني بدوري أن تتكرر طبعات' فجر الضمير', والأهم أن يعمم علي طلاب وطالبات مصر, ليتعزز فخرهم بمصرهم, ويتعمق ولاؤهم وانتماؤهم لوطن كان أكثر الأوطان إسهاما في التاريخ المكتوب. ولعل أهم ما يبرهن الكتاب عليه أن المصريين قد شعروا بالوازع الأخلاقي قبل أن يوجد الشعور به في أي مكان آخر, وخاصة حين أشرقت شمس العدالة الاجتماعية في مصر! ومن زمن الدولة القديمة, كان إله الشمس' رع', الذي ترمز له المسلات, هو إله' العدل' في معتقدات المصريين القدماء. ورغم أن الحق والباطل كانا أمرين يقررهما الفرعون, فإن متون الأهرام تحتوي علي أدلة قاطعة لا تقبل الشك علي أن' العدالة' و'الحق' كانت قوتهما أقوي من سلطان الملك نفسه. وما دون في جبانات عصر الأهرام يجسد أقدم برهان علي الشعور بالمسئولية الأخلاقية عند قدماء المصريين في عالم الحياة الآخرة, حيث لم يبق الوازع الأخلاقي, وخاصة الداعي إلي العدل, مقتصرا علي علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب, بل بدأ يظهر تأثيره في إدراك الحكومة لواجباتها نحو عامة الشعب. وتمدنا حكم الوزير الأكبر' بتاح حتب' بأقدم نصوص في العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم, فيقول قبل أكثر من أربعة آلاف وسبعمائة سنة:' يعترف بفضل الرجل الذي يتخذ العدالة نبراسا له, فينهج نهجها'! ويقول:' إن الحق جميل وقيمته خالدة.. وقد تذهب المصائب بالثروة, ولكن الحق لا يذهب بل يمكث ويبقي'! ويقول:' إرع الحق وعامل الجميع بعدالة'! ولم يوجد شعب آخر في بقاع العالم القديم نال من السيطرة علي عالم المادة مثل ما ناله المصريون الأقدمون كما تنطق آثار مصر. وقد شغلت الحياة المصرية القديمة بالانتصارات المادية التي لم يسبق لها مثيل, وبني المصريون القدماء بنشاطهم الخلاق صرحا من الحضارة المادية يعجز الزمن عن محوه. ثم اصطبغت الأخلاق بصبغة إنسانية اجتماعية وصارت قوة اجتماعية مهدت لفاتحة' عصر الضمير' والأخلاق, حين أخذ أقدم أتباع العقيدة المادية يتعلمون أول درس لهم! والأمر أن انهيار' الدولة القديمة' كان له وقع زلزال دفع رجال الفكر للإقلاع عن الاستغراق في تمجيد الأبهة المادية والتحول إلي التأمل العميق في القيم الأخلاقية. وحينئذ ظهر عصر الأخلاق وشل ما عمله بناة أهرام الجيزة, التي جسدت دليلا قويا علي السلطة والثروة اللتين كانتا متجمعتين في أيدي فراعنة الأسرة الرابعة. ومن زمن الدولة الوسطي, نجد مجموعة من ورق البردي المصري ألفت قبل نحو أربعة آلاف سنة تحوي في ثناياها آراء اجتماعية تعتبر أقدم بحوث معروفة في الاجتماع, وتمثل حملة دعاية لأول جهاد مقدس في سبيل العدالة الاجتماعية, ويعد مؤلفوها أول المصلحين الاجتماعيين, كما سجل بريستيد وغيره من رواد علم المصريات, الذين درسوا أدب الدولة الوسطي. وفي زمن الدولة الحديثة في بداية عهد الإمبراطورية المصرية صار الضمير أمرا يحاسب الله الإنسان علي مراعاته, ولم يعد ثمة مجال لإخفاء الذنوب أو إنكارها, لأن المؤمن قد أضحي يشعر بأن كل أمره معلوم عند ربه! وقد عبرت عن هذا' حكم أمينموبي' في رسالته العظيمة إلي ابنه قبل نحو ثلاثة آلاف عام, وهي رسالة ترجمت فيما بعد الي العبرية, وقرأها العبرانيون القدامي, وليت يقرأها محدثوهم, كما كتب بريستيد في مؤلفه الصادر قبل أكثر من خمسة وسبعين عاما, وكأنه يتنبأ بسياسة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي:' لا تزحزحن الحد الفاصل الذي يفصل الحقول, ولا تكن جشعا من أجل ذراع من الأرض!!.. وارقب أنت من يفعل ذلك فوق الأرض, فبيته عدو للبلد.. أعط المتاع لأصحابه, وبذلك تبغي نفسك الحياة.. وإذا جاءت إليك الثروة عن طريق السرقة, فإنها لا تمكث عندك.. ولا تقول: لقد وجدت حاميا, والآن يمكنني أن أهاجم..'!! ثم نجد الحكيم المصري القديم أمينموبي يقول في أنبل فقرة من نصائحه لإبنه:' لا يعلم الإنسان ما سيكون عليه الغد. الله في كماله والإنسان في عجزه'! إنه المثل العالمي:' الإنسان يريد, والله يفعل ما يريد' في أقدم صورة له! إنها خشية الله. ولنتذكر أنه لا يوجد شعب قديم أو حديث بين شعوب العالم احتلت في نفسه فكرة البعث والحساب بعد الموت المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب المصري منذ القدم! ويخلص بريستيد إلي أن وادي ودلتا النيل بمصر كان الميدان الفريد الذي نستطيع أن نرقب فيه صراع الإنسان وهو يخطو بحياته في سبيل الرقي, من أول ظهور الإنسان وما تلا ذلك من تحقيق انتصاراته علي ما اعترض حياته إلي أن رأيناه في آخر المطاف يصل إلي إدراك ما يشمله مفهوم الإنسانية من معاني العدالة والمساواة. وكانت' ماعت', التي قصد بها المصريون القدماء' الحق' و'العدل' و'الاستقامة' و'الصدق', هي النظام الأخلاقي أو' الضمير' و'الأخلاق'. وقد ظهرت ماعت في المدونات المصرية القديمة فيما بين سنتي3000 ق. م. و2000 ق. م. وفي هذا التحول التاريخي, الذي حدث لأول مرة فوق كرتنا الأرضية كان المصريون هم الكاشفين للأخلاق, أي ما بنيت عليه الحضارة البشرية! لكن عشق الإنسان للقوة كان أقدم بكثير جدا من عصر الأخلاق, ولذلك بقيت القوة ظافرة علي الضمير المولود حديثا. ويسجل بريستيد أنه قد تأثر خلال بحثه طوال سنوات في أنحاء الشرق الأدني بحقيقة ساطعة هي:' إن الآثار التي لا تزال باقية.. كانت قبل أي شيء عنوانا لقوة الإنسان', الذي أكسبه صراعه مع الطبيعة من أجل الحياة شعورا عدائيا بأنه لا يمكنه أن يظفر بغرضه إلا بالحرب الدائمة. وقد انتهي الأمر بصراع طويل علي السيادة بين الأمم استمر آلاف السنين! لكن شمس العدالة والأخلاق التي انبثقت في ظلمة لم تكن تعرف مثلها من قبل سوف تسطع مجددا لتضيء الوجود الإنساني, كما تمني بريستيد, مشيرا إلي أن وجود معمل تجارب اجتماعي كمصر كفيل بأن يلقي ضوءا يبشر بإمكان وجود عالم تتمكن فيه القيادة والحكومة من العمل الجاد علي خلق جو صالح تسوده العدالة والأخلاق.