شاهدت الفيلم في قاعة عرض صغيرة في الجولف سيتي، مدينة العبور. نصف المتفرجين واجم معظم الوقت، والنصف الآخر يضحك باستخفاف في أكثر المشاهد درامية. ردود الفعل رجالية في العموم أما السيدات والشابات فلم يكن يصدر عن أي منهن صوت، لا بالاستحسان ولا بالرفض. كنت بصحبة اختي المقيمة في القاهرة والتي تعرف وتؤكد أن هذا يحدث فعليا، وأحيانا في وجود الشرطي الذي يرفض التدخل لحماية البنت المتحرش بها خوفا ش أن يتعرض للضرب أو الطعن. في وسط المدينة، في وضح النهار؟! أكدت: عيني عينك! خرجت من الفيلم وأنا خائفة. جرعة التعاسة في مختلف المواقف، وعبر مختلف الطبقات، طالتني واستقرت صورها في رأسي. كنت أعول علي هواء الليل الساري في التسرية عني لكن رعشة الخوف زادتها رعشة برد، وعدت إلي بيتي علي حدود الصحراء وأنا أفكر في الفيلم وأستعيد مشاهده القاسي منها والأقل قسوة (لحسن الحظ كان هناك الستاند اب كوميدي، وشخصية ضابط الشرطة التي أداها بشكل جميل ماجد الكدواني). الفيلم عن قضايا التحرش في مصر، وهي تهمة يعاقب عليها القانون بقسوة في العالم كله، خاصة التحرش الجنسي في العمل، سواء كان المتحرش رجلاً أو امرأة، زميلاً أو زميلة، بين رئيس عمل أو رئيسة عمل والموظفة أو الموظف العامل تحتهما. نعرف أنها تهمة لا يخجل من توجيهها المعتدي عليه، أو الضحية. وعادة ما يحصل علي حقه لو ثبتت التهمة، إعادة اعتبار، إعادة تأهيل لو أن التحرش أصاب الضحية بمشكلات نفسية. كما أن هناك متخصصين يبحثون عن الأسباب ويقدمون برامج للتوعية ويداوون المصاب أو المصابة ومهمتهم لا تتوقف عند تطييب الخاطر وتوزيع عبارات الصبر والسلوان ولكن تمتد لمعالجة المشكلات التي تنشأ نتيجة لهذا الانتهاك الجسدي والنفسي. قدم الفيلم رؤية تتمتع بقدر من الاتزان والتوازن، حيث نتعرف علي ثلاث شخصيات نسائية تمثل شرائح اجتماعية مختلفة، منهن المتزوجة وغير المتزوجة، المحجبة وغير المحجبة، الثرية ، أو المتوسطة الثراء أو الفقيرة، المثقفة والمتعلمة تعليما متوسطا...كلهن يعملن مما يضطرهن للخروج والتعامل مع آخرين رجالا ونساء، ومعني الاضطرار قد يكون اقتصاديا وليس بالمعني المحافظ أو المتخلف الذي يري أن مكان المرأة هو البيت والذي يجبر الكثيرات علي التحجب "لحماية أنفسهن" أو "صيانة عفتهن" أو يجبرهن علي التخلي عن طموح العمل من أجل رعاية البيت والأولاد. الثرية يتم التحرش بها في ماتش كرة قدم، وتضيع وسط زحام من أجساد رجال ينتهكونها ويتسببون في فقد الجنين الذي في رحمها (رغم أنها كانت بصحبة زوجها). أما الفقيرة فتنفق راتبها البسيط من عملها كموظفة علي التاكسي، تتجنب الأوتوبيس الذي تتعرض فيه كل يوم لمضايقات الرجال حتي فقدت احساسها بجسدها وكرهت معاشرة زوجها. يجمع بين النساء الثلاث كونهن تعرضن لتحرش جنسي وليس لاغتصاب، لجنحة وليس لجريمة يسهل إثباتها. الرابط بين الشخصيات الثلاث يحدث عبر الأحداث، وأيضا عبر التفاصيل التي تجمع بينهن وبين شخصيات أخري في الفيلم بمجرد المصادفة. مثلا تهبط شخصية فايزة (لعبت الدور باقتدار بشري) من الأوتوبيس وتتوقف علي صوت كلاكس سيارة سوداء تكاد تصدمها، نكتشف في لحظة أخري من الفيلم أن قائدها هو زوج صبا الفنانة الثرية صاحبة جاليري (تلعب الدور نيللي كريم). علاقات الوصل التي يخلقها السيناريو ويؤكدها المونتاج تربط بين الأحداث وتجعل المنطق السائد للفيلم هو التأكيد علي أن كل حدث خاص هو أيضا حدث عام، يخص الشخصيات الأبعد، كما يخص الشخصيات الرئيسية. تلك الحلقة المغلقة علي نفسها، التي تضيق وتضيق لتربط بين العوالم المختلفة في الفيلم، تؤكد لنا أن القضية قضية كل الشخصيات (بما في ذلك ضابط الشرطة) وليس مجرد قضية أفراد منفصلة. محمد دياب المخرج وكاتب السيناريو أتقن في كتابة القصة والحوار إلي حد بعيد. استطاع أن يقنعنا أن الأحداث حقيقية عندما تبني روح الفيلم الواقعي دون تنازل عن مقياس الجودة الدرامية. كما استطاع أن يثير في نفوسنا الحيرة إزاء البعد الأخلاقي لما يحدث لهؤلاء السيدات والبنات. فالمعتدون الذين يبدون في البداية وحوشا ومرضي نفسيين ومنحرفين، يتم اختصارهم في نهاية الفيلم في شخصية زوج فايزة (لعب الدور باسم السمرة) الذي تحرمه زوجته من معاشرتها فيضطر هو أيضا للتحرش بالسيدات في الأوتوبيس وينال نفس العقاب الذي يناله الآخرون، طعنة في جهازه التناسلي بمطواة تستخدمها صبا الثرية وهي تركب الأوتوبيس للمرة الأولي في الفيلم بعد أن اتهمتها فايزة بالانفصال عن واقع الناس. كما نري فتاة تستسلم لملامسات الرجال في الأوتوبيس لإشباع رغبتها بعد أن فاتها قطار الزواج. المسألة إذن ليست أخلاقية فقط بل اجتماعية أيضا وبالأساس. الكاميرا علي كتف المصور تهتز وتقترب من الوجوه والتفاصيل وينعدم الصوت أو يكاد وتغيب الموسيقي التصويرية كأننا بإزاء ريبورتاج تليفزيوني حميم ينقل الأحداث من قلب الواقع لحظة وقوعها. تتزاحم التفاصيل في الكادر أحيانا لتؤكد اختناق الشخصيات في أوتوبيس أو في مكتب عام، وتعلو أحيانا أخري لتصور المشهد من وجهة نظر طائر فتبدو عزلة الشخصية في ميدان عام ملمحا من ملامح الحركة العشوائية للسيارات وضياع الإنسان في متاهة الحياة. تلك الكاميرا المحمولة التي تشي بنبض حاملها وتدخله كطرف في لعبة التأمل والتصوير والتأويل، تجعلنا نتبني وجهة نظر المخرج ونشعر بها حية، معنا، في قلب الحدث وفي عقل ومشاعر الشخصيات. كان من الممكن الاكتفاء باستخدامها في المشاهد المهمة، بدلا من اعتمادها أسلوبا عاما للفيلم، لكن الرغبة في تصوير هول المشكلة لم تسمح للمخرج بتأمل حركة الكاميرا كثيرا فانساق وانسقنا معه داخل منطق الدراما الواقعية. لكنها واقعية نظيفة، محكمة، تستخدم المفردات التقليدية لتطرح قضية شائكة وتنجح في إثارة التساؤلات.