كل ما نشأ وتطور في الماضي يكتسب في نظري قيمة عاطفية. كل ما مر ولم يترك أثرا سوي ذكري مروره، كل ما تحلل وتبخر وتهاوي واندثر وحفر في الذاكرة حفرة أوقعني فيها، يحتل مكانة في نفسي. كأني جامعة قمامة الذاكرة. والماضي حاضر مستمر، من الساعة الماضية إلي الأسبوع الماضي إلي السنوات الماضية، من أبعد خيالات الطفولة إلي أقرب وقائع اللحظة الراهنة، كل شيء ما إن يمضي حتي يصبح عزيزا، غنيا، حنونا، وفي كل الأحوال جميلا وساحرا وغامضا. الماضي قربان يقدمه الزمن الحاضر عربون محبة للتاريخ، اتقاءً لشر المخفي في علم الغيب، النسيان، جمود العاطفة. عاطفة رقراقة كالماء الكثيف، كبحر يغوي، لا يشف ولا يصف، يأخذ السابح في دوامته ودون أن يدري يجد نفسه يحملق في الفراغ المخيف، قاع بلا غور. تلك العاطفة أمي هي من علمتني إياها، أورثتني إياها. ذات صباح خريفي، وثوبها الأسود يرفرف كعلم الغرقي علي شاطئ قفر، وقفت تبكي في الشرفة وصوت انتحاب جماعي يتصاعد من الميدان. كنت في الخامسة من عمري، مضت العاطفة علي قلبي كعصفور النار، أضاءت بوهجها شعورا لم أعرف بوجوده قبل تلك اللحظة، انجذابا لشيء لم أعرف كيف أسميه. في لحظة تالية من لحظات الماضي البعيد، أسميته وطنا أو شوقا للذوبان في الجماعة أو فهما جديدا للحزن. وحيدة في شرفة عالية والناس هناك علي مرمي حجر ولا سبيل للذوبان إلا في عاطفة الجماعة، في حزن الجماعة، مات الزعيم وترك أمي وحيدة، أمة وحيدة. جاءت العاطفة، طرقت بابا واستقرت. سجلت نقطة في سجلاتي الشخصية، ربطت بين صور ذلك اليوم وصور الأيام التالية، جعلتني أفهم كم كانت عزيزة علي تلك الذكري، حزن أمي علي عبد الناصر. حزنها وحده يكفي صك اعتماد لأبديته، بعيدا عن التحليلات الجافة والمقاربات الوافية والسجالات العقلية. في السنوات العشر التالية، لم تفلح مناهج التعليم في المدرسة في محو المئات من الذكريات الحلوة والمرة لدي معلمينا وآبائنا. مشاعر مبهمة في كثير من الأحيان تختلط بحب هذا الرجل ومكانته في قلوب الكثيرين من حولي، في البيت وفي المدرسة. كنا نزداد تعاطفا مع أحلام الفترة السابقة كل يوم ونتعلم ببطء شديد معني التصحيح ومزاياه للأقلية. المعلمون يكررون ما عرفوه عن حلم الوحدة العربية وعن انجازات الثورة حتي في عصر الانفتاح، لا سبيل لمحو تعاطفهم الراسخ مع الحلم القديم بوعود سرعان ما بددتها رياح التغيير المزور. المدرسة لم تغير شيئا من عاطفة أشد تمسكا بحقها في الوجود من كل ما جاءت به الكتب عن تعديل المسار وأوهام الدخول إلي العالمية. المدرسة، علي الأقل في تلك الفترة البعيدة، تمسكت بالمنهج العاطفي، لم تعتبره جنونا أو نزقا أو شطح خيال. علي الأقل ليس في البداية، فيما بعد غامت الرؤية وانكسر الحلم بلا رجعة. نعم، كنت صغيرة علي هذا الحب. حب من نوع خاص يخرجني من ذاتي، يلصقني بالجماعة، ومن حيث لا أدري يصبح كل الناس، خاصة من لا أعرفهم، جزءا من تاريخي الشخصي: أبي وأمي والحبيب الذي لم يفصح عن نفسه بعد. سنوات الجامعة أكدت هذا الارتباط، تلك الرابطة. والعقدة ليس لها حل، ازدادت تعقدا حين كرهت كل ما يربطني بجماعة خانعة، ذليلة، مستسلمة، غوغائية، كانت تشير في كل يوم بإصبعها نحو الهاوية وتصرخ أن انقذونا، تلقي بعبء الإنقاذ علي آخر، قريب أو بعيد، عدو أو حبيب، بدلا من أن يتشبث أفرادها ببعضهم البعض كالبنيان المرصوص. العقدة أن كره تلك الجماعة الملتبسة، العمياء، لم يقض علي العاطفة القديمة، علي الحلم الماضي. كأن الناس كيان واحد، يصحو وينام علي صوت الثورة. أو كأنهم كيان واحد، يصحو وينام علي صوت السياط وألم الجوع وشراسة الحاجة. كيان واحد! أعرف أن التعميم مرفوض. التعميم مبدأ العاطفة وصنوها، كل شيء أو لا شيء. ولا حيلة لي. الماضي يأكل الحاضر، والحاضر يقتات علي فتات الأحاسيس الخائبة. خيبات الأمل عاطفة. الانتظار عاطفة. التوقع عاطفة. الجهل بالأسباب العليا والخفية والعميقة والمركبة والكونية، عاطفة. كلها عواطف طفولة لم أبرأ منها بعد. نعم، كنت صغيرة علي ذلك الحلم، لكنه يعود ويلح. كما تعلمته من حزن أمي ومن صوت معلم اللغة العربية وهو يردد جملا من الميثاق. كان لدينا ميثاق! ومشروعات وحدة مبتورة مع الكيان الأكبر بين الماء، محيط وخليج. كان لدينا ارتباط عاطفي بلغة أم، وتاريخ في الذل والثورة، ومشروعات بناء، وأقدام تغوص في وحل الأرض لو عطشانة وعقول تحلق في ملكوت الحلم والوعد. كان ذلك في الماضي. ولا حيلة لي في التعلق بحبال الماضي البعيد طالما لم يأت الماضي القريب بشيء سوي الحرائق. لم يفلح أحد في تصور حلم جماعي كالذي تشبثت بأذياله أمي وبقايا فلول الحالمين من جيلنا. ورغم أنها لابد نسيته ونسيت أيامه، إلا أنني من آن لآخر أحب أن أذكرها به، من قبيل البكاء علي الأطلال. البكاء علي الأطلال انفراج للعاطفة، ولولا وجودها تلك الأطلال لما وقفنا نبكي علي الديار القديمة والأمم البائدة. أسباب كلها وجيهة، لا شك وجيهة، نقدمها كل يوم لننال من قيمة العاطفة. نعلي من قيمة الشر والعدوان ونسخر من تخلف العاطفة وسقم المريضين بها. باختصار، وبكلمات لا تخلو من عاطفة، ننسي أن ذكاء الشر والعدوان أنتج اتحادا أوروبيا وعملة موحدة، ولم يكن ليفعل لولا أن سبقته العاطفة للتمهيد لمعني أن تكون أوروبا كيانا واحدا رغم النزاعات القديمة والندوب التي خلفتها حربان عالميتان. كتب وأبحاث ومؤتمرات ورغبة سياسية تتنامي ثلاثين عاما قبل إعلان إمكانية تحقيق الحلم. لو وضعنا الارتباط العاطفي بتفاصيل الحلم جانبا، وتناسينا أن تاريخ الأمم ينسجه الخيال، لظل من المنطقي أن نعترف بضرورة التكتل والوحدة باستخدام الأدوات التي استخدمها آخرون لتغذية نفس الحلم الذي مهما تغيرت مفرداته لا يتغير جوهره الإنساني.