أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلا في القرن الثاني الهجري، لأنه في القرن الهجري الأول لم تدع حاجة إليه، فالرسول كان يفتي ويقضي بما يوحي به إليه ربه من القرآن، وبما يلهم به من السنن، وبما يؤديه إليه اجتهاده الفطري من غير حاجة إلي أصول وقواعد يتوصل بها إلي الاستنباط والاجتهاد، وأصحابه كانوا يفتون ويقضون بالنصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية السليمة من غير حاجة إلي قواعد لغوية يهتدون بها علي فهم النصوص، ويستنبطون فيما لا نص فيه بملكتهم التشريعية التي ركزت في نفوسهم من صحبتهم الرسول - صلي الله عليه وسلم - ووقوفهم علي أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث وفهمهم مقاصد الشارع ومبادئ التشريع. ولكن لما اتسعت الفتوح الإسلامية واختلط العرب بغيرهم وتشافهوا وتكاتبوا ودخل في العربية كثير من المفردات والأساليب غير العربية، ولم تبق الملكة اللسانية علي سلامتها، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات في فهم النصوص دعت الحاجة إلي وضع ضوابط وقواعد لغوية يقتدر بها علي فهم النصوص كما يفهمها العربي الذي وردت النصوص بلغته، كما دعت إلي وضع قواعد نحوية يقتدر بها علي صحة النطق. وكذلك لما بعد العهد بفجر التشريع، واحتدم الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي، واجترأ بعض ذوي الأهواء علي الاحتجاج بما لا يحتج به، وانكار بعض ما يحتج به، دعا كل هذا إلي وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفية الاستدلال بها، ومن مجموعة هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تكون علم أصول الفقه، ولكنه بدأ صغيرا كما يوجد كل مولود أول نشأته ثم تدرج في النمو حتي بلغت أسفاره المائتين. بدأ منثورا مفرقا في خلال أحكام الفقه لأن كل مجتهد من الائمة الأربعة وغيرهم كان يشير إلي دليل حكمه ووجه استدلاله به، وكل مخالف كان يحتج علي مخالفه بوجوه من الحجج، وكل هذه الاستدلالات والاحتجاجات تنطوي علي ضوابط أصولية، وأول من جمع هذه المتفرقات مجموعة مستقلة في سفر علي حدة، الإمام أبويوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكر ابن النديم في الفهرست ولكن لم يصل إلينا ما كتبه. وأول من دون من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان ووجهة النظر فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفي سنة 204 للهجرة، فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدون في العلم وصل إلينا فيما نعلم، ولهذا اشتهر علي ألسنة العلماء أن واضع أصول علم الفقه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وتتابع العلماء علي التأليف في هذا العلم بين اسهاب وايجاز، وقد سلك علماء الكلام طريقا في التأليف في هذا العلم، وسلك علماء الحنفية طريقا آخر في التأليف فيه. فأما علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قواعد هذا العلم وبحوثه تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان، ولم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد علي ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها، ومن هؤلاء أكثر الأصوليين من الشافعية والمالكية، ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت علي هذه الطريقة كتاب «المستصفي» لأبي حامد الغزالي الشافعي المتوفي سنة 505 ه، وكتاب «الأحكام» لأبي حسن الآمدي الشافعي سنة 631 ه، وكتاب «المنهاج» للبيضاوي الشافعي المتوفي سنة 685ه، وأحسن شروحه شرح الاسنوي.