أب لثمانية أبناء وعمره 80 عاما، يتذكر معهم الآن مشاعر ووقائع الماضي. هذا هو الحدث الرئيسي لرواية الألماني جونتر جراس "الصندوق"، التي تعد جزءا ثانيا من مذكراته التي صدرت عام 2007 بعنوان "تقشير البصل" وأثارت جدلا صاخبا نظرا لاعتراف جراس فيها لأول مرة باشتراكه في قوات النازي وهو في ال17. جراس الذي حصل علي جائزة نوبل في الآداب عام 1999، يبتعد عن فترة الشباب ليركز علي مرحلته الحالية، عبر تسعة فصول هي عبارة عن محاورات بينه وبين أبنائه الثمانية، يسجل جراس ذكريات العائلة. اشتق جراس عنوان روايته من اسم كاميرا ألمانية بدائية بسيطة شهيرة اسمها "أجفا بوكس"، كانت تستخدم في فترة ما قبل الحرب، وتظهر هذه الكاميرا خلال الرواية مع ماري الصديقة المقربة للوالد، واللاعبة الأساسية والمؤثرة في حياة الأسرة، وما هي في الحقيقة إلا مقابل لشخصية واقعية هي المصورة ماريا راما. ماري وكاميراها سرعان ما تأخذان إجازة من الواقع، وفي لقطات بالأسود والأبيض، تكشفان أجزاء مفقودة من ماضي مؤلف يعيش بهاجس التاريخ. "قد لا تكون الرواية مذكرات، بل تمرينًا علي البحث عن الذات"، هكذا يشرح جونتر جراس لقرائه بالإنجليزية طبيعة عمله المترجم حديثا عن دار هوتون ميفلين هاركورت بعنوان "حكايات من الغرفة المظلمة". وعلي غير العادة يختفي التركيز هذه المرة علي شخص جونتر جراس كما كان يفضل دائما، ويتخلي عن أنانيته ويخصص الجزء الأكبر من الرواية للأطفال وهم يسترجعون أحداث حياتهم الخاصة وعلاقتهم بأبيهم، ومن خلال ذكرياتهم ينظر الأب إلي حياة العائلة ككل. اشتغال الوالد بالكتابة، جعل الأطفال يشعرون بالوحدة وبأنهم عالة عليه، وكانت من أولوياتهم وقتها هي كيف يجعلونه بعيدا عن الكتابة وكيف يحتلون عقله بدلا منها. يذكر أن جراس تزوج مرتين: الأولي من آنا مارجريتا شوارتز عام 1954 وطلقها عام 1978، والثانية عام 1979 من أوتي جرونرت، وأنجب ثمانية أولاد. تتقاطع طريقة جراس في تلك الرواية مع ما كتبه سابقا في مقالة نشرت عام 1979 بعنوان "ماذا يجب أن نقول لأطفالنا؟"، حيث إن الراوية مستوحاة من أسئلة أطفاله المستمرة عن العالم. في "الصندوق" يعترف جراس بحقيقة أساسية، أنه عضو أثرت قراراته في الأسرة، ولم يكن ذلك التأثير في كثير من الأحيان إلي الأفضل. يظهر جراس في الرواية بشخصية الراوي، ثم تبدأ لعبة استدعاء الصور التي يلعبها الأب والأبناء كل بطريقته. مذكرات جراس بالأساس هي لتقييم الماضي والتوصل إلي تفاهم معه، أو مع التاريخ بمعناه الواسع، سواء التاريخ الذي عاشه جراس وشهده بنفسه، أي التاريخ الشخصي وتاريخ العائلة، أو التاريخ العام للحقبة التي عاش ويعيش فيها. تقترح رواية "الصندوق" أن التعامل مع الماضي ليس أمرًا محدودًا بل عملية مستمرة، ف"العمل من خلال الماضي" هو جوهر حياة جراس وكتاباته. يقول صاحب "الطبل الصفيح": "الحقيقة الثابتة هي أن ذكرياتنا أو ما نرويه عن أنفسنا، قد يكون غالبا خداعا". في هذا العمل بدا جراس وكأنه في صندوق كاميرا قديمة، يطوف بها الشيخ مع أولاده الثمانية داخل مساحة الذاكرة ليحكي حكايات طريفة، لكن هذه المرة لا يأتي علي ذكر المثير، فقد هرم الكاتب ولم يعد لديه جلد الشباب وعنفوانه وتهوره.