محمود مرسي وجه غاضب وفجأة ينفجر في ضحكة مرحة عابثة طويلة والسبب سؤاله: ماذا يقصد هذا الرجل بكلامه؟ إنه يمسك كتاب ستانسلافسكي يعصره بيمناه عصرًا ويمد أصابع يده اليسري في وجوهنا بعد أن يقرأ مقولة من مقولات الكتاب ويصرخ: الله.. إيه التناقض ده يقولي ما معناه، حد يقولي.. قولوا حلوها أنا جربتها ما نفعتش إنتم - خربوها. أن يهبط بقداسة هذا الكتاب إلي مستوي الكتاب القابل للبحث والقابل للمناقشة والخطأ، إنه ليس كتابًا منزلاً ومن هنا فهو يفتت لنا معلوماته ويجعلها قابلة للبحث والتفتيش، المادة التي كان يدرسها (نظريات تمثيل) لكنه دمر كل هذه النظريات وسحقها وتركنا في حيرة البحث عن شظايا من الوعي، بكيف نستخدم ما تبقي من هذه النظريات، إنه يبدأ بالشك ويبحث عن يقين في صدق الأداء وهذا الشيء العزيز لا يجده الممثل إلا (بذاته في ذاته) مستندًا علي علامات طرق نادي بها الآخرون، ومحمود مرسي أعطانا مساحة رحبة في البحث عن أفضل ما يصلح لنا من طرق وأساليب للدخول إلي مهنة الممثل، يضرب أمثلة بما نشاهده من أعمال وينتقد بحدة ما نشاهده أيضًا. محمود مرسي لم يطلب من أحد منا تقليده ولا التأثر بأسلوبه في الأداء فهو طوال فترة جهاده الفني (باحث) عن دور يفتش في كل جانب عن مستوي للأداء يرتفع بنجوميته من عتريس البشع إلي شفافية أبو العلا البشري مشوار شديد الطول، مساحة عريضة من الصدق والجودة والارتفاع بخط واضح نحو أداء متميز لعملاق مثقف - علمنا وأسعدنا بفنه العظيم. الأستاذ المعلم: عبدالرحيم الزرقاني رغم أنه المساعد الأصلي للأستاذ الرائد زكي طليمات فإنه طبعة مختلفة، إنه الرجل الوسطي، الذي يقف وسط التأمل الذهني للعقل المفكر (نبيل الألفي) والعاصفة الدموية الهائلة (حمدي غيث) إنه الرجل الأكثر بساطة - والأكثر (تواضعًا) فلا زهو الثقافة والمراجع الأجنبية يشغله في مقدماته لتعليم الممثل ولا سعادته بقوة عضلاته تدفعه إلي (استعراض قدراته الجسدية) ولا قوامه يسمح له بأن (يتأنق في الحركة) قامته ونظارته وبساطة ملبسه وحرمانه من بعثة السفر للخارج - وتواضعه الجم (رغم تكراره لعبارة «نحن عبدالرحيم الزرقاني») مجرد افتخار ذاتي متواضع لذات غنية بشيء نادر فاخر إنه التراث الشديد للقيمة والخبرة الإنسانية كثافة المشاعر الهادئة والشجن والحنان الذي يخرج من صدره متنفسًا ويعلو صوته ناطقًا، لا كلمة لديه تخرج من فمه إلا إذا حملت إشارة نفسية أو دلالة درامية لا شيء لديه مجاني لا معني له. إنه ليس ممثلاً عظاميًا - بل هو الرجل الإنسان البسيط، ولهذا سجلت أعماله الإخراجية الواقعية أعلي إقبال جماهيري وأكثر جاذبية. لا يؤمن كمخرج إلا (بالكلمة والممثل) ولهذا فهو يختصر المسرح في وظيفته الجذرية، والديكور والملحقات والإضاءة والموسيقي وغيرها مجرد إشارات دلالية، خلفية مساعدة لا غير الحركة لديه تؤدي وظيفة واقعية شارحة لتفصيح القصد - بلا ترميز وبلا (بهلوانيات) تجرح عن سيادة الهادي، أستاذ رسمي ومعلم محترم، احتاجوا إليه كثيرًا في السينما لجعل الجميلات الأبكمات يفتحن أفواههن ويتعلمن الكلام. استطاع معالجة (عاهات الكثيرات والكثيرين) إنه أستاذ الأداء الواقعي في المسرح وحتي في المسرحيات التاريخية والنصوص الأدبية استطاع كسر نسور الأداء الفخم المحلق وجعلها حمائم وادعة وجميلة. لتذكر بركان حمدي غيث (جميلة الشرقاوي) لنتذكر كيف كان الكل كالعاصفة ما عدا الأداء الخاص الهادئ للزرقاني، رغم أنه فارس الرياح الهوجاء حمدي غيث كان هو مخرج العرض. نتذكر أداء الزرقاني في دور عمدة المدينة في مسرحية (تشيانيك) تحت الرماد رغم أنها إخراج حمدي غيث أيضًا، الزرقاني لا يصخب عندما يعلمك الهجوم والدفاع والغضب إنه يحول الانفعال الحاد إلي إقناع عميق يحققه في الانفعال، إنه يطالب المستمع أن يسمعه ويجذب آذان المستمع بنغمة خافتة مقنعة، صوت رخيم رغم محدودية نغماته ورتابتها أحيانًا. لا يستعرض في الأداء نظرية فكرية ولا يصرخ صوته بالمعرفة ولا يقدم القيمة الفكرية علي القيمة العاطفية للمشهد، إنه يوازن بين كل الأشياء ويكون الناتج إنسانًا يحيا الدور بكل أبعاده، لا يسبق بعد بعدًا، إنه الأستاذ الوسط، رمانة الميزان بين ذهنية الألفي وانفعالات غيث، إنه المعلم الذي لم يتكرر - كانت أيام ولسه برضه باقي في الذاكرة شوية.