علي سذاجة الفكرة التي تبناها البعض، وتحدثوا عنها تليفزيونيا، حين قالوا إنهم بصدد الإعلان عن الاكتتاب الشعبي من أجل إصدار صحيفة جديدة.. إلا أن مجرد طرح هذه الفكرة من قبل مجموعة من الأفراد كانوا يعتقدون أن الصحف الخاصة تعبر عنهم.. إنما يدل علي أن هذه الصحف الخاصة تفقد أصواتا كانت تري أنها تمثلهم وأن فيها ما يمكن أن يصبح منبرا لهم. لقد زاد الحديث في الأيام الأخيرة، من اتجاهات غير متوقعة من قبل، عن سيطرة رأس المال علي الصحف الخاصة.. خصوصا بعد الذي جري في جريدة الدستور.. لا سيما بعد أن تبين للجميع أن جريدة مثل المصري اليوم لا تعبر سوي عن مصالح مالكها صلاح دياب.. وأن جريدة مثل الشروق لا تعبر سوي عن مصالح مالكها إبراهيم المعلم.. هذا في حد ذاته انتصار لوجهة النظر التي أتبناها منذ سنوات، وهي أننا لسنا أمام صحف مستقلة وإنما أمام إصدارات خاصة لا بد أن ينظر إليها علي أنها مملوكة لرأسمال له مصالح وتوجهات.. مهما سوقوا لأنفسهم بشعارات الموضوعية والحياد. لكن الاكتتاب الشعبي في الصحف في حد ذاته توجه ساذج جدا.. أصلا كل مشروعات الاكتتاب الشعبي التي دعا الناس إليها فشلت بطريقة مضحكة.. لأن من دعوا إليها، إما لم ينتبهوا إلي أن قيام المصريين بدفع أموال في ما يدعون إليه لا بد أن يكون مستندا إلي هدف عظيم.. وإما لأنهم كانوا يستخدمون مبدأ الاكتتاب الشعبي للاستهلاك السياسي.. علي سبيل المثال فشلت دعوة حزب الوفد للاكتتاب الشعبي لشراء بنك القاهرة.. ليس لأن المصريين لا يريدون شراء البنك.. ولكن لأنهم أدركوا أن الحزب يخوض صراعا سياسيا.. ولأن عمليات شراء البنوك ليست مهمة المواطنين العاديين. في التاريخ نشأت فكرة الاكتتاب الشعبي مع تولد مشروع تأسيس بنك مصر.. وقد كان البنك متطلبًا اجتماعيًا ملحًا.. أخذت الدعوة إلي تأسيسه سنوات.. وصاحبه زخم فكري وثقافي واجتماعي عريض ومتدفق.. ناهيك عن الاحتياج الاقتصادي لمشروع البنك.. في ظل سيطرة البنوك الأجنبية وأذرع الرأسمالية المساندة للاحتلال.. وحتي الاكتتاب لم يكن شعبيا بالمعني المفهوم، وإنما ساهمت فيه بالأساس قوي اجتماعية وطنية ورأسماليون وطنيون وملاك أراضٍ كانوا في حاجة إلي هذه الآلية المالية الحيوية وأن تكون بالأساس مصرية.. علمًا بأن أبرز مؤسسي البنك إلي جانب طلعت حرب كانوا يهودا (موسي قطاوي وألبير موصيري وسوارس). لا أعتقد أن فكرة مماثلة نالت نفس القدر من الزخم، حتي الدعوة السقيمة التي أطلقت لسداد ديون مصر في نهاية الثمانينيات، لم تجد صدي يمكن له أن يفعلها.. ومن ثم فإنني لا أعتقد أن مثل هذه الدعوة لإطلاق صحيفة بالاكتتاب الشعبي.. علي رومانسيتها ورونقها الجذاب.. سوف تنجح.. هذا إذا سعي وراءها من قالوا بها.. ولم يكونوا يتكلمون للاستهلاك. يغيب عن مصدري الصحف أو الساعين إليها أنها يجب أن تتجاوز رغبات بعض الأشخاص.. وأن الصحف كما أنها لا بد أن تكون منبرًا لاتجاه فكري وسياسي ملموس في المجتمع، فإنها لا بد أن تعبر عن فئة اجتماعية حقيقية.. لها مصالح وأهداف.. ومن ثم أردد دائما أنه لا يوجد حياد في الصحافة.. وإن كان الحياد يختلف تمامًا عن الموضوعية. جريدة «البديل» التي توقفت - علي سبيل المثال - وقف وراءها بعض الممولين المنتمين لجناح من الاتجاه الشيوعي المصري، فلما نفدت قدرتهم المالية كان أن توقفت الصحيفة.. وحتي لو أعيد إصدارها كموقع إلكتروني.. فإنها تفتقد زخم كونها تعبر عن اتجاه موجود حقا في مصر.. أو مصلحة أصيلة تدافع عنها اجتماعيا. وصحيفة «الدستور».. هي في النهاية كانت مشروعًا فرديا.. وحتي لو كانت تعبر وقتها عن الإخوان قبل أن يشتريها رضا إدوارد والسيد البدوي.. فإنها كانت مؤجرة للجماعة المحظورة ولا تعبر عنهم تعبيرا أصيلا.. ولذا حين زايد عليهم آخرون بالمال.. كان أن ذهبت إلي هؤلاء الآخرين.. وربما تكون «الدستور» الآن أكثر تعبيرا عن المصالح التي يمثلها مالكها المعلن والصريح رضا إدوارد. قس علي هذا موقف صحيفة مثل الوفد، لديها قدرة زمنية علي الصمود أكبر بكثير وأضعاف قدرة الشروق والمصري اليوم علي الصمود.. وكلتاهما سوف تتوقف عن الصدور.. أعرف الفرق طبعا بين جريدة حزبية وجريدتين خاصتين.. لكن مهما تراجعت الوفد صحفيًا وسياسيًا، فإنها تعبر عن توجه مجتمعي موجود ومصلحة اجتماعية وسياسية قائمة.. أما الصحيفتان الخاصتان الأخريان فإنهما مشروعات فردية.. حتي لو كان عدد الأفراد خمسة أو عشرة.. وهما لم تنجحا في اجتذاب مصالح اجتماعية حقيقية للتعبير عنها.. ناهيك عن خواء المصري اليوم من المضمون السياسي المتماسك الذي تعبر عنه.. والمضمون الذي أقصده ليس هو «التعبير الميكروباصي» عن متناثرات من التوجهات المتناقضة وليس هو المناكفة في الحكومة.. وإنما أعني توجها سياسياً بعينه.. له ظهير اجتماعي. الاكتتاب الشعبي وفق هذا لن يكون وسيلة عملية لإصدار صحيفة.. لأن الشعب الذي سوف يدفع ثمن كوبونات الاكتتاب لديه أولويات أخري.. وأغلبيته لا تقرأ الصحف أصلا.. فضلا عن أنه - أي الشعب - يفتقد التواصل مع من يطرحون عليه فكرة الاكتتاب.. بل إنه لا يعرف أغلبيتهم إن لم يكن لا يعرفهم كلهم.. فلماذا يمنحهم هذا التفويض ولو بدفع عشرة جنيهات؟ الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]