بالأمس استمعنا إلي العم أفريكانوس وهو يصف موكباً لأحد الصنايعية الذي يعرض علي زملائه اختراعاً جديداً هو سلسلة فضية دقيقة للغاية لدرجة أنه ربط فيها برغوثا، وكانوا هم يعطونه نقوداً. هذه هي المرة الأولي التي أتنبه فيها إلي أن كلمة "نقوط" التي نستخدمها في الأفراح هي النطق المحرف لكلمة "نقود" وليس من "النقطة" أو النقاط، وبذلك تكون كلمة "ينقط" هي بذاتها الكلمة الفصحي ينقد يعني يعطيه نقداً).. قلت له: آه ياعم الأسد الإفريقي.. أنت تتكلم عن شيء لا وجود له خارج مصر في طول التاريخ وعرضه، أعرف أن الملوك والرؤساء والنبلاء يقدرون المبدعين ويكافئونهم، ولكن ما تحكيه يمثل حالة خاصة لا مثيل لها.. هذا الصنايعي المبدع قام بإشهار عمله وسجل براءة اختراعه، وحصل علي مكافأته التقديرية من زملائه البشر العاديين أولاد المهنة، في نفس الموقع.. في الشارع.. ثم تلوم المصريين لأنهم لا يسافرون إلي الخارج..؟ هذه عقول نبيلة يا ليو وقلوب امتلأت بالحب والعظمة والتقدير للإبداع.. هل كان هذا هو حالنا بالفعل من خمسمائة عام؟ هل كان الناس البسطاء يقدسون الحرفة والمهنة والإبداع لهذا الحد..؟ تري ماذا حدث لنا.. لقد لمحت في كلماتك رنة سخرية خفيفة وأنت تتكلم عن الموكب الموسيقي وتقول كما لو كان موكب نصر.. نعم يا ليو هو موكب للنصر فعلا.. فعندما يبدع صاحب الحرفة ويلقي التقدير من الناس، فهذا هو أعظم الانتصارات، للمبدع ولأصحاب التقدير.. لا يكره الإبداع سوي المهزومين الضعفاء.. إنه موكب نصر فعلا يا ليو... والآن أيها الأسد الإفريقي لا تحدثني عن أي شيء... اسكت يا صديقي... وأنا كمان حاسكت. في تلك الليلة رافقتني أحلام جميلة رأيت فيها عدداً من أصدقائي في الثقافة والإعلام والمجلس الأعلي للثقافة، رأيت نفسي صنايعي في مصر في ذات العصر الذي زارها فيه أفريكانوس، قبل ظهور دور النشر وقبل أن تظهر وزارة الثقافة، كتبت ثلاث مسرحيات جديدة، وضعتها علي يدي ونزلت بها إلي الشارع بحثاً عن التقدير والنقوط الذي سينهال علي حتماً من زملاء المهنة، بدأ الحلم يتحول إلي كابوس.. لم أجد أحداً منهم، لحسن الحظ كان معي تليفوني المحمول، المحمول في الأحلام يعمل في كل العصور، اتصلت بصديقي الدكتور فوزي فهمي أطلب موعداً فوعدني أنه سيتصل بي بعد أن يراجع مواعيده، وما زال يراجعها، اتصلت بالدكتور وحيد عبد المجيد وهو كاتب ليبرالي يقدر الصنعة، ومسئول عن النشر في مؤسسة الأهرام، كان هو الآخر في طريقه إلي مكتبه، وعدني أن يحدد لي موعداً للقاء معه عندما يصل إلي مكتبه.. يارب يوصل، ما زلت أمشي في الحلم الكابوسي في شوارع القاهرة حاملاً صنعتي علي يدي أدور بها علي الأصدقاء وخلفي الفرقة الموسيقية تزفني، بتاع التطبيع أهو.. أخيراً أقابل صديقي الكاتب حلمي النمنم، هو شخص يتسم بالنزاهة العقلية وكاتب وباحث ممتاز.. ويعمل نائب رئيس هيئة الكتاب، الحقني يا حلمي. فتح حلمي ذراعيه وقال لي: أهلا يا حبيبي.. تعالي في حضن أخوك. أمسك بالمسرحيات وصاح: يا غلام.. الحمد لله، لا يأس مع الكوابيس ولا أحلام مع اليأس، قال للغلام: لم اقرأ هذه المسرحيات، سأقرؤها بعد أن تطبعوها.. إمتي؟ فأجاب الغلام: كمان أسبوعين.. فأخرج حلمي سيفه من غمده وأطار رقبته ونادي غلاماً آخر قال له: الأسبوع ده يافندم.. ولم يحدث..آه.. صديقي إبراهيم عبد المجيد يمتلك دار نشر الآن.. ألو يابراهيم.. أنت صاحي..؟ أجاب: لأ نايم. ولم يستيقظ حتي الآن.