يبدو أن حروب بورسعيد لا تنتهي ولن تنتهي؛ فبعد الحروب الضارية التي خاضتها دفاعاً عن حرية واستقلال وكرامة الوطن ضد الغزاة والمستعمرين، ها هي تخوض حرباً جديدة لكن من طراز آخر، العدو فيها لا يأتيها من البحر والجو مصوباً إليها آلات الدمار، وإنما هو عدو آخر، يأتيها من الداخل، ويسعي إلي تدميرها بإغراءات المال والثروة أحياناً، والجهل وعدم الوعي أحياناً أخري. عدو مثل هذا تبدو أخطاره أكبر وأوقع أثراً، فما هي الحكاية؟ أصل الحكاية بحكم ظروف وزمن نشأة بورسعيد كأول مدينة مصرية حديثة تقام خارج حوض وادي النيل، وارتباط هذه النشأة بقناة السويس وحضارة البحر الأبيض المتوسط، وجمعها بين ثلاث قارات هي أفريقيا وآسيا وأوربا، ولدت المدينة حاملة طرز القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين المعمارية، وهي طرز إنسانية في المقام الأول قبل أن تكون أوربية أو مصرية أو إسلامية. وقد ظلت المدينة بمبانيها الخشبية والحجرية محافظة علي طرزها المعمارية التي أصبحت فريدة من نوعها، إلي أن ارتفعت أيادي أغنياء الانفتاح الاقتصادي بمعاول الهدم، وتحركت بولدوزرات المضاربين علي الأراضي والمتاجرين بآلام الناس من سماسرة عقارات ومقاولين ورجال أعمال وملاك أيضاً لتكتسح عدداً من أهم وأندر المباني الأثرية بالمدينة. ومثلما هبت المدينة كلها للدفاع عن نفسها وعن مصر ضد الغزاة، اندفع فريق من أبنائها للدفاع عن تراثها المعماري ضد الهجوم الوحشي الذي بدأ في اجتياح كل ما هو قيم وجميل فيها، صحيح أن عددهم الآن أقل من عددهم وقت الحروب الحربية، لكنهم بثقافاتهم وأدواتهم يمثلون قوة لا يستهان بها. تجمعوا بعدما كانوا فرادي، وعبر ثلاثة أسابيع كاملة من الفعاليات المتواصلة بدأت من 23 سبتمبر الماضي، انتهت قبل أيام قليلة، تحت عنوان "أيام لإحياء التراث المعماري في بورسعيد" حضرها نحو 500 مثقف علي مدي الواحد وعشرين يوماً، تمكنوا من بلورة خطتهم للتحرك من أجل إنقاذ التراث المعماري لمدينتهم. فعاليات متكاملة كمَّلت الفعاليات بعضها البعض في هارمونية قلما نجدها في أي نشاط مماثل فجمعت بين المحاضرة والورشة والمائدة المستديرة والمؤتمر، جنباً إلي جنب المعرض الفني والأمسية الموسيقية الشعبية والفيلم، والزيارة الميدانية الاستكشافية، واستحضرت خبراء وطنيين وأجانب. بدأت الفعاليات بمعرض للفنان الفوتوغرافيا وليد منتصر أظهر فيه الملامح الفريدة للمعمار في بورسعيد، استمر المعرض لمدة أسبوعين تلاه معرض لطلبة كلية التربية النوعية بالمدينة بإشراف الدكتور سعيد القطان. أما المحاضرات فقد ألقاها بالإضافة إلي كاتب هذه التغطية كل من "كلودين بياتون" المهندسة المعمارية في وزارة الثقافة الفرنسية منذ العام 1999م المسئولة عن مشروع مبادرة تطوير وتنمية الفنون المعمارية الحديثة في حوض البحر المتوسط، والدكتور"فاسيليس كولوناس" المهندس المعماري اليوناني المتخصص في ترميم الآثار وتاريخ الفن، والدكتور"ستيفان برادين" المتخصص في التراث المعماري الشرقي، والدكتور "عباس زواش" المتخصص في تاريخ العصور الوسطي، والأخيران باحثان بالمعهد الفرنسي للتراث المعماري الشرقي بالقاهرة. وناقشت مائدتان مستديرتان خلفية المشكلة: الأسباب والظواهر والتحديات بالإضافة إلي التوقعات المستقبلية وخيارات إشراك المجتمع المدني. وكان لافتاً للانتباه أن الرحلة الاستكشافية التي ضمتها الفعاليات لمشاهدة فرادة الطرز المعمارية بالمدينة أن شارك فيها ما لا يقل عن ستين زائراً قدموا من القاهرة. مشكلات الملاك والسكان أثيرت في ورش العمل وأثناء المناقشات مشكلات الملاك والسكان وندرة الأراضي داخل كردون المدينة، وارتفاع أسعارها ارتفاعاً جنونيا، وتهاون جهات الإدارة إزاء تنفيذ القوانين التي تمنع هدم العقارات الأثرية والفيلات، كما ترددت أسماء مدن تقل في أهميتها المعمارية عن بورسعيد جنت الربح الوفير من جراء ترميم مبانيها، مدن مثل بازل، كوبنهاجن، مارسيليا، كتالونيا، وتونس. كما طُرحت أفكارٌ بناءة كثيرة ترمي إلي إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقي من هذا الكنز الذي يجري تبديده. تصدرتها ضرورة حفز الملاك والسكان علي صيانة عمائرهم والمحافظة عليها بمنحهم تعويضات مالية ومعنوية مجزية تعادل الأثمان التي يحصلون عليها إذا باعوا الأرض المقامة عليها الآن مع إنشاء صندوق يخصص لهذا الغرض، وتكريم الملاك الذين يحافظون علي عماراتهم ويقومون بترميمها ترميماً سليما، ولفت انتباه الإدارة المحلية ممثلة في محافظة بورسعيد ووزارة التنمية الإدارية، وكذا وزارة السياحة وهيئاتها كجهاز التنسيق الحضاري والمجلس الأعلي للآثار وصندوق التنمية الثقافية إلي الأهمية المعمارية للمدينة، ووقف هدم العمائر التي حصرتها اللجان المتخصصة واعتبرتها تراثاً هندسياً معمارياً، والاحتفاظ بواجهات العمائر التي لابد من هدمها بمتحف المدينة القومي مع سرعة ترميم هذا المتحف، ومراعاة الطرز التي اشتهرت بها المدينة عند تصميم أي عمائر جديدة، ومخاطبة الهيئات المتخصصة في شئون الثقافة الإنسانية والمعمارية عربياً وعالمياً بما فيها هيئات الأممالمتحدة للمساهمة في إنقاذ معمار بورسعيد باعتباره تراثاً إنسانياً فريداً. وعلي الرغم من أن الجمعية المصرية لتنمية الثقافة الفرنسية قد هيأت ظروف اجتماعات هؤلاء المثقفين، ورعت برنامج هذه الأيام إلا أنهم آثروا أن يكون تحركهم مصرياً خالصاً فانضموا بنشاطهم إلي "جمعية أدباء وفناني بورسعيد"، وقد كان لافتاً للانتباه مباركة مسيو "بيير ماركس الفاروبا" لهذا الاتجاه وحثه عليه. لجنة للحماية وبيان للتنبيه بدأت الفعاليات بلجنة تحضيرية ضمت بالإضافة إلي كاتب هذه التغطية كلاً من الشاعر محمد عبد القادر، الفنان وليد منتصر، الناشط البيئي واتر البحري، وسيدة الأعمال نجلاء إدوار؛ وانتهت بتشكيل لجنة "التراث المعماري من أجل التنمية" ضمت بشكل دائم كلاً من البروفسير نجيب أمين الخبير العالمي لشئون تطوير المدن وأستاذ العمارة بجامعتي باريس ومونتريال، الدكتور مصطفي أحمد موسي، الدكتور سراج الدين صالح ساسي، المهندس محمد منير الدنف، الشاعر محمد علي علي عبد القادر، السيدة أمينة علوي، الناشط البيئي واتر البحري، والفنان التشكيلي وليد منتصر، علي أن ينضم إليها من تتوفر لديه الرغبة والقدرة علي المساهمة، وقد انضم إليها بالفعل عدد لا يستهان به من المهندسين وخبراء التنمية البشرية والإعلاميين والفنانين التشكيليين والأدباء. وقد أصدرت اللجنة بياناً عاماً "من أجل حماية التراث المعماري في بورسعيد" أكدت فيه علي تميز بورسعيد بامتلاكها تراثا معمارياً فريداً يميزها عن سائر المدن المصرية والعربية والعالمية لجمعه بين أكثر من نمط وطراز من أنماط وطرز البناء التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقال البيان إن هذه الفرادة قد أهلتها لكي تكون متحفاً مفتوحاً يتيح لزائريه تأمل فنون العمارة الأوربية والإسلامية والمصرية مجتمعة معاً في مكان واحد؛ و"حسبما أكد مهندسون معماريون وخبراء في التراث المعماري الإنساني فإن بورسعيد هي المدينة الوحيدة في العالم التي تمتلك حتي الآن عمارات سكنية خشبية من أربعة طوابق مأهولة بالسكان"، وبعد تنديد بالجرائم التي ترتكب بحق هذا الكنز التراثي الفريد وبتقاعس الأجهزة الرسمية عن تنفيذ القانون الذي يمنع هدم الفيلات والقصور والمباني ذات الطابع المعماري الفريد، ناشدت اللجنة المصريين عامة وأبناء بورسعيد خاصة، والمؤسسات والأجهزة والهيئات والمصالح المحلية والقومية والعالمية المعنية بالثراث والثقافة للتعاون معها من أجل إنفاذ مهمة الإنقاذ هذه، وتوجهوا علي نحو خاص إلي محافظ بورسعيد ليسعي معها لوضع هذا الهدف النبيل موضع التنفيذ.