كان السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر، وهذه الجملة تنطبق علي الكثير مما كانت مصر ترتبط به وتعتبره إحدي أولوياتها المطلقة، مثل علاقاتها العربية وقيادتها للوطن العربي، ومثل مكانتها الأفريقية ودول عدم الانحياز، بل ومثل دورها العالمي، وعندما نتحدث بهذا الأسلوب لا نعني أن مصر تخلت عن دورها وتراجعت وأن علينا أن نلطم الخدود كما يحدث من كثيرين اليوم. لكن ما حدث في الشرق الأوسط في العالم أدي إلي تغيير جوهري في مقومات الدولة الحديثة القادرة علي أن يكون لها دور مؤثر في المنطقة والعالم ففي زمن الامتداد القومي في الخمسينيات والستينيات كان هناك الاتحاد السوفيتي وكتلة عدم الانحياز وتحرر بلدان العالم الثالث من الاستعمار وكان جمال عبد الناصر هو رمز لهذه الحقبة بقدرته الفائقة علي التحدث للجماهير لكن جاءت نكسة 1967 وانهزم التيار القومي. وظهر التيار الإسلامي وجاء السادات ليدرك حركة البوصلة العالمية فقد تغيرت قواعد اللعبة العالمية واستطاع السادات برؤيته أن يحارب وينتصر عام 1973 واستثمر هذا الانتصار في عقد معاهدة الصلح مع إسرائيل وقد ثبتت صحة رؤيته حيث انهار الاتحاد السوفيتي ولهثت باقي الدول العربية في محاولة يائسة للحاق بركب العالم وازدادت الأمور تعقيداً مع أحداث 11 سبتمبر 2001 ولم يدرك العرب والفلسطينيون كل هذه التحولات حيث انقسم الشعب الفلسطيني علي نفسه وبقيت القضية الفلسطينية تعاني وما زال القوميون العرب يناضلون بالخطب الرنانة غير قادرين علي تمييز رؤي المستقبل وعلامات الأزمنة. وأكبر دليل علي ذلك السودان تلك البلدة التي لم تدرك تكوينها السكاني والجغرافي ومقابل حفنة ريالات سعودية للرئيس النميري قرر تطبيق الشريعة الإسلامية وارتفع سهم الترابي ليكون واجهة للحكم وهكذا خسر السودان جنوبه وغربه وربما شرقه أيضاً، إلا أنه بمجيء البشير إلي الحكم ازدادت الأمور سوءاً وحدث ضغط علي دارفور واتهم البشير بجرائم الحرب وحكمت المحكمة الدولية بأن عليه أن يسلم نفسه للمحكمة. وهكذا تفكك السودان من يديه وحاولت مصر وغيرها من البلدان أن تجنب السودان هذا المصير لكن السودان ورئيسه كما كثير من رؤسائنا العرب لا يسمعون إلا أنفسهم ولا يستيقظون إلا بعد فوات الأوان ومن المعروف أنه لولا طلب المحكمة لما قبل البشير تقسيم السودان وانفصال الجنوب ومن الطبيعي القول بأنه كان بإمكان مصر أن تكثف علاقاتها بالسودان للحيلولة دون حدوث ذلك. لكن هناك عدة أسباب حالت دون ذلك منها أن كل رئيس عربي يظن أنه حكيم الزمان وأنه الزعيم الملهم بل هناك من يظن أنه زعيم العرب وأفريقيا والعالم، ويقوم بتسفيه السياسة الأمريكية والأوروبية والأمم المتحدة والثمانية الكبار، ويعيد سبب الكوارث العالمية إلي أن كل هؤلاء لم يستشيروه وقد رأينا خطاباًَ مثل هذا لأحد الزعماء العرب في الجمعية العمومية ثم سمعناه مترجماً بالفارسية أي صورة طبق الأصل علي فم زعيم إيران بعد ذلك بنفس المفردات دون اتفاق بينهما إلا الحياة في الوهم. لذلك ليس من الغريب أن يخرج الشعب الجنوبي في السودان في مظاهرات صاخبة تطالب بالانفصال وبدأ زعماء الجنوب يكونون حكومتهم المستقلة بعلمها ونشيدها، وكل ذلك بتدعيم أمريكي أوروبي سواء سياسياً أو إعلامياً أو عسكرياً حيث قدمت لها الصفقات والأسلحة الحديثة. ومن الغريب أن دول الخليج تقوم بتمويل ميناء الجنوب السوداني في كينيا ليكون نافذتها علي العالم وسوف تتأسس دولة الجنوب علي العلمانية والديمقراطية والليبرالية واحترام جميع الأديان وإقامة علاقات دبلوماسية مع كل دول العالم بما فيها إسرائيل، كل ذلك علي الرغم من وجود قضايا عالقة ربما تفجر الموقف وهي البترول والحدود والديون لكن السؤال هو إذا تفجر الموقف بين الشمال والجنوب تري مع من سيقف العالم؟ وهل سيكون تفجير الموقف فرصة لإضعاف البشير وتدميره؟ وهل يدرك الزعماء العرب آثار تقسيم السودان والأنكي من ذلك تفجيره علي بلدانها؟ وهل يعملون معاً علي إيقاف التفجير إذا كانوا قد فشلوا في منع تقسيمه؟