يثير كتاب «ثومة» - حكاية فيلم لم يكتمل للصحفي والناقد «الأمير أباظة»، والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة قضايا كثيرة جديرة بالمناقشة، فالكتاب يقدم وثيقة سينمائية مهمة هي مشروع الفيلم الذي تحمس له الراحل «سعد الدين وهبة» والراحل «يوسف شاهين» عن «أم كلثوم» عام 1968، وتثبت هذه الوثيقة التي كتبها «وهبة» أن تاريخ الأفلام التي لم تنفذ ربما لا يقل إثارة وأهمية في التسجيل عن كواليس وملابسات تصوير الأفلام التي صدرت بالفعل: سمعنا حكايات من مصادر مختلفة حول هذا الفيلم الذي لو صور في حياة «ثومة» لكان ربما أول فيلم روائي عن شخصية شهيرة ينتج في حياتها، وبدا الأمر أحيانًا كما لو كان مجرد أفكار وجمع لمادة تاريخية، ولكن ما نشر في الكتاب يؤكد أن الحكاية قطعت أشواطًا كبيرة، ولم يوقف المشروع في النهاية إلا وفاة الرئيس «عبدالناصر» عام 1970، بعدها فتر الحماس ثم توقفت الدولة عن الانتاج، وكان الفيلم أحد مشروعاتها. القضية الثانية الأكثر أهمية هي الصعوبة غير المسبوقة التي يواجهها كل من يفكر في عمل روائي عن شخصية حقيقية راحلة أو علي قيد الحياة، لقد وصفت هذه النوعية من الأعمال الفنية بأنها أقرب إلي المشي فوق الألغام، وفي الكتاب قصص شديدة الطرافة عن شروط «أم كلثوم» لانتاج فيلم عن حياتها، بدأت الفكرة باقتراح من «يوسف شاهين» في مكتب «سعد الدين وهبة» بالشركة القومية للتوزيع التي كان يرأسها في ذلك الوقت «ربيع 1968»، وعن طريق «محمد الدسوقي» ابن شقيقة «ثومة» استقبلتهما في فيللتها، وفي اللقاء الأول لم تقبل ولم ترفض، وإن كانت قد طلبت من «يوسف شاهين» اخراج أغنيتها المعروفة «طوف وشوف»، وعندما تساءل «شاهين» بالإنجليزية بتلقائيته المعروفة: «what is toof» «ما معني طوف؟» قالت «ثومة» ضاحكة ل«سعد الدين وهبة»: جايب مخرج خواجة يخرج فيلم عن «أم كلثوم»؟ لم يفتر حماس «شاهين» و«وهبة» بل أن الأخير نجح في الحصول علي موافقة «ثومة» لكي تخصص جلسات يسجل من خلالها تفصيلات من حياتها علي لسانها، في هذه اللقاءات كانت ترفض وجود جهاز تسجيل، وكان يعود إلي منزله لكي يقوم بتفريغ ما استمع إليه من الذاكرة، وفي اللقاء التالي يسترجع معها ما قد يكون نسيه، واحتاج الاعداد لمشروع الفيلم اللجوء إلي المواد الصحفية منذ عام 1925، ونقل كثيرًا من هذه المواد كتابة لأنه لم يكن من المتاح تصوير الأوراق بمثل السهولة التي تتم به الآن، ولكن كل هذا المجهود في الاقناع وجمع المادة الصحفية والتاريخية يهون أمام المشكلة الأهم التي عبر عنها «سعد الدين وهبة» في ملاحظاته علي المشروع بقوله: «الفيلم يكتفي بسرد الحياة الفنية للفنانة الكبيرة دون التعرض لحياتها الخاصة»، ومن أطراف ما يذكره «الأمير أباظة» أن وزير الثقافة شخصيا وهو المثقف الكبير «ثروت عكاشة» حاول أن يقنع «ثومة» بأن يتناول الفيلم حكاية أحد الرجال الذين أحبتهم لأنه ليس من المعقول أن يكون هناك فيلم عظيم ومؤثر بدون قصة حب، وردت «أم كلثوم» في هدوء: ما عنديش مانع، بس بعد ما أموت! وقد انعكس هذا الرفض علي مشروع السيناريو المنشور في الكتاب حيث تبدو «ثومة» كقروية مكافحة بدأت من الغناء في القري حتي وصلت إلي الغناء علي مسرح الأوليمبيا في باريس، وما بين البداية والنهاية نتوقف عند لحظات مرضها عام 1953 وسفرها إلي العلاج في أمريكا، ومع وقفات طويلة حول دورها في دعم المجهود الحربي بعد هزيمة 1967 من خلال حفلاتها داخل وخارج مصر. في مشروع السيناريو جهد كبير واضح خاصة فيما يتعلق بتدقيق المراحل التاريخية، وفيه ربط جيد بين تاريخ مصر وحياة «أم كلثوم»، بالاضافة إلي تسجيل تطور الموسيقي وفن الغناء المصري من خلال أغنياتها الشهيرة، وفيه محاولة لتحقيق التشويق من خلال تقديم مشاهد تظهر فيها «أم كلثوم» وهي تستعد للغناء أو في طريقها للسفر إلي فرنسا داخل طائرة ثم اقتناص «فلاشات» تعود بنا إلي الماضي، وفي مشروع السيناريو أيضا وعي كبير بالجمع بين ما هو روائي وما هو تسجيلي سواء من أفلامها أو من حفلاتها، ولا ننسي أننا شاهدنا في «حدوتة مصرية» مشاهد ملونة صورها «يوسف شاهين» لإحدي حفلات «ثومة»، وينطلق «سعد الدين وهبة» بخياله ليختم فيلمه بمشهد عبور توقعه للقوات المصرية علي صوت أغنية ل«أم كلثوم»، كما يقدم في المشروع أفكارا تفصيلية عن الفيلم بما فيها البرنامج الزمني للتصوير، ومن الأمور اللافتة أنه يقترح أن يكون جميع ممثلي الفيلم من الوجوه الجديدة التي لم يسبق للجمهور مشاهدتها علي الشاشة والتليفزيون، كما يقترح أن يتم تكليف الموسيقار «محمد عبدالوهاب» بوضع موسيقي الفيلم مستعينًا بأغنيات أم كلثوم المختلفة ومن اقتراحاته المدهشة عمل مسابقة لاختيار اسم للفيلم في العواصم العربية علي أن تكون الجوائز رحلة للقاهرة ومشاهدة العرض الأول ومقابلة «أم كلثوم»، ويقترح أيضا عمل فيلم تسجيلي قصير عن مراحل تصوير وإنتاج الفيلم يبدأ بتوقيع العقود. خيال مذهل يليق بعقلية منظمة وبكاتب كبير، ولكن ظلت مشكلة المشروع والمعالجة إنها تبتعد تماما عن حياة «أم كلثوم» العاطفية وهو أمر لا يمكن قبوله في فيلم بطلته مغنية معظم أعمالها عن الحب، ولتعويض هذه الثغرة بدت «ثومة» من خلال الورق كما لو كانت زعيمة سياسية، وبدت بالطبع بلا أخطاء وكأنها رمز مجرد، كل ذلك يمكن فهمه إذا تذكرنا شرط «أم كلثوم»، كما يمكن فهم ارتفاع النبرة الوطنية إذا تذكرنا أن الفيلم كان مقررا إنتاجه بعد عام واحد من هزيمة 1967، وتستطيع أن تقارن أيضا هذه الصعوبات بالحرية التي تمتع بها صنّاع الفيلم الفرنسي الرائع «الصغيرة» عن حياة «إديث بياف» وكيف تم الربط بين حياتها كإنسانة ضعيفة هشة وشخصيتها القوية في أغنياتها التي عوضتها عن هذا الضعف. حتي عام 1968 كانت الأفلام المصرية التي تناولت حياة شخصيات حقيقية معدودة، فيلم مثل «ريا وسكينة» تجاوز وقائع جرائم السفاحتين الشهيرتين ولم يكن متوقعا أن يدافع الورثة عنهما، وفيلم مثل «مصطفي كامل» قدم الزعيم الوطني في صورة ملاك يمشي علي قدمين وتأخر عرضه لأسباب سياسية، ولكن فيلم «سيد درويش» الذي أشرف «سعد الدين وهبة» علي إنتاجه عندما كان يرأس شركة «فيلمنتاج» أثار مشاكل لا تنتهي مع ورثة الموسيقار العظيم بسبب الكشف عن علاقاته النسائية، وبسبب مشهد موته في النهاية بشمِّة كوكايين، ومن المفهوم بعد هذه التجارب القليلة أن يكون هدف «وهبة» و«شاهين» أن يقوما بتجربة «تاريخية» لتقديم فيلم عن «أم كلثوم» عن حياتها وبمشاركتها بصرف النظر عن شروطها التي تحدّ من الإبداع والخيال، ورغم وفاة الثلاثة (ثومة وشاهين ووهبة) إلاّ أن شروط الورثة لكل الشخصيات الهامة من «أسمهان» إلي «ليلي مراد» مازالت تثير المشاكل وتملأ ساحات المحاكم. وفقًا للكتاب الشيق والهام فإن «أم كلثوم» وافقت قبل سفرها للغناء في موسكو علي الخطوط الأولي للسيناريو، وهناك بلغها نبأ وفاة «عبدالناصر» فعادت حزينة، وعندما استعادت نفسها كان الحماس قد فتر، وربما لم تسعفها الصحة أيضًا، كما أن الدولة توقفت أصلاً عن إنتاج الأفلام، وفي عام 1979 حاول «سعد الدين وهبة» إنتاج الفيلم ولم ينجح، وحاول «حسين القلا» أن ينتجه في التسعينيات ولكنه تراجع عن المغامرة، وظل المشروع المكتوب محجوبًا حتي عثر عليه مؤلف الكتابة بين أوراق «سعد الدين وهبة» فنشره ليرصد قصة حلم، وليفتح بابًا لقضايا لم نحسمها حتي الآن رغم مرور كل هذه السنوات!