إن الغرب بعد أن اكتوي من نيران الفكر الإلهي الوثني اليوناني انقلب عليه وعلي عقائده بصورة لم تعهدها أي ديانة من أتباعها علي الإطلاق في تاريخ البشرية، واقتصر الغرب فقط علي الفكر اليوناني في نسخته المعدلة والمطورة علي أيدي المسلمين. فقد بدأ عصر النهضة والتنوير في الغرب بالازدهار، والغرب يومها بلا دين، فقد ظن الغرب يومها أن الدنيا ستكون عبارة عن (سيمفونية حالمة) بإقصاء الدين من نفوس الناس ومن ساحة العقول والقلوب لكن ماذا حدث؟؟ هل الغرب اللا ديني جلب الأمن والمحبة والسلام للعالم بحضارته اللا دينية؟.لقد برع الغرب بالفعل وبما لا يقبل مجالا للشك وبما لا يسبق له مثيل في تاريخ البشرية في التقدم العلمي والتقني والإنساني، وهل هذا التقدم التقني والمادي والتكنولوجي استطاع أن يصلح من الشخصية الغربية وأن يكف شرورها عن بقية العالم؟؟ وهل نشر الغرب السلام والأمن في العالم بين شعوبه وشعوب العالم الأخري؟؟ كلا،. لقد بدأ الغرب عصر نهضته وحضارته بالاحتلال والاستعمار لغالبية شعوب الأرض وبالإبادة الجماعية لسكان أمريكا الأصليين (الهنود الحمر) حين بدأت الإمبراطوريات الغربية في الظهور واحدة تلو الأخري الفرنسية والبريطانية والسوفيتية والفاشية والنازية، وأخيرا وليس آخرا الإمبراطورية الأمريكية. فعلي الصعيد الخارجي قامت هذه الإمبراطوريات الغربية باستعمار الشعوب الفقيرة والمنهكة لنهب ثرواتها وامتصاص دماء شعوبها وتسخيرهم وإذلالهم وسفك دماء الملايين ظلما وعدوانا من أبناء هذه الشعوب، وقد مكث هذا الاستعمار وامتد لعشرات السنين، وقد حدث كل هذا تحت مظلة العلم والحضارة والحرية والديمقراطية واللادينية. هذا علي الصعيد الخارجي، أما علي الصعيد الداخلي فقد توج الغرب حضارته وعلمه وتقدمه بحربين عالميتين بدءا من عام 1914 حتي عام 1945 واللتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من العسكريين والمدنيين وأضعافهم من الجرحي والمعاقين، وأيضا في خلال عصر النهضة والتنوير الغربيين قام الغرب بتطوير أبشع وأفظع أنواع الأسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية والذرية بحيث يكفي جزء قليل جدا من هذه الأسلحة أن يبيد الأرض ومن فيها وما فيها، ويحولها إلي كومة من الرماد، وما زال هذا الفناء المحقق يملأ مخازن وزارة دفاع العالم الحر المتحضر وما زال يعمل علي تطويره حتي هذه اللحظة. لقد قامت كل الإمبراطوريات الغربية مجتمعة باحتلال الكرة الأرضية حتي لم يبق شعب من شعوب العالم ولا دولة من دول العالم إلا وقد تم احتلالها من قبل الغرب المتحضر، ورغم هذه النهضة في الغرب ورغم هذا التنوير وهذه الحضارة وهذا التقدم وهذا العلم، رغم كل هذا لم يستطع الغرب أن يبقي ويذوب في الشعوب المستعمرة أو يذوب الشعوب المستعمرة فيه، فقد قامت كل شعوب الأرض شرقية أو غربية شمالية أو جنوبية مسلمة أو غير مسلمة بلفظ وبصق هذه الحضارة الغربية رغم ما كانت تحمل هذه الجيوش المستعمرة من مباهج الحياة وبريق الحضارة إلي الشعوب المغلوبة. إلا أن هذه الشعوب لم تقبل هذا الغرب الممتلئ حضارة وتقدما والخاوي من القيم الروحية والأخلاقية والدينية. وفقد احتلت الإمبراطورية البريطانية الهند ما يقرب من مائة عام أو يزيد ومع ذلك لم تستطع الإمبراطورية البريطانية أن تدمج الشعب الهندي في هذه الحضارة ولم يستطع الشعب الهندي أن يتقبل هذا الجسم الغريب رغم عشرات السنين التي مكثها الاستعمار البريطاني في الهند إلا أن الشعب الهندي وقائده العظيم (المهاتما غاندي) قام ببصق ولفظ هذا الاحتلال الغربي المتحضر. وهنا ينبغي للمرء أن يقف وقفة تأمل حول هذه الظاهرة وينبغي أن يطرح عليها الكثير من الأسئلة وأهم هذه الأسئلة وأكبرها لماذا كل شعوب العالم التي استعمرها الغرب المتحضر لم تقبل التعايش والاندماج مع الغازي الغربي رغم كل ما يحمله من ترف مادي وبريق حضاري؟؟ في اعتقادي أن السبب يرجع إلي أن هذه الحضارة الغربية رغم ما معها وما فيها من قوة ومن مباهج وبريق حضاري ومادي وتكنولوجي إلا أنها حضارة مفلسة في الجانب القيمي والروحي والديني وبالتالي لم تتمكن الشعوب المستعمرة من التعايش أو الاندماج معها. وهنا تكمن المفارقة والتمايز بين الاستعمار الغربي وبين الاستعمار العربي الإسلامي، حيث إن الاستعمار الغربي لم يكن لدية أي رصيد في مجال الروح والدين والقيم الدينية حتي يستطيع من خلاله الاندماج والذوبان مع الشعوب المستعمرة، وذلك علي عكس الاستعمار الإسلامي الذي كان لا يملك ذلك الرصيد الضخم والمذهل من القوة والعلوم والتقنية والحضارة الذي كان يمتلكه الغرب وقت استعماره لشعوب العالم. فرغم فساد الأنظمة السياسية في التاريخ الإسلامي إلا أن الاستعمار الإسلامي كان لديه رصيد روحي ودينا ضخم استطاع من خلاله أن يندمج مع الشعوب المستعمرة ويذوب فيها وتذوب فيه. وما أريد أن أصل إليه هو أن العالم الغربي يختبئ وراء قوته المادية وحضارته البراقة وليس لديه ما يقدمه للناس في عالم الروح والقيم الدينية، القيم الدينية التي تشترك فيها جميع الأديان علي السواء. القيم الدينية التي تردع عن ظلم الشعوب، وبدون هذه القيم لن يستطيع الغرب أن يندمج بحضارته مع أي من شعوب الأرض، فقد أخطأ الغرب حين ظن أن الإنسان يمكنه العيش فقط بالمادة وبريقها الحضاري، ولا أدل علي ذلك مما حدث في فيتنام وما يحدث الآن في أفغانستان والعراق وفلسطين. (للحديث بقية)