في القرون الأولي للإسلام حين بدأ الاختلاط بين المسلمين وغير المسلمين وحين بدأت الفلسفة الإلهية اليونانية تحل بركتها علي المسلمين، كما حلت بركتها من قبل علي الديانة المسيحية، بدأ المسلمون حينها في الانشقاق فيما بينهم بسبب حركة الترجمة والانفتاح علي الفكر اليوناني الإلهي منه والإنساني. فالجانب الإلهي من الفكر اليوناني فعل بالمسلمين ما فعل بالمسيحيين، فقد شتتهم إلي فرق وشيع وأحزاب يكفر بعضهم بعضا ويضلل بعضهم بعضا، حيث قد تبنت كل فرقة منهم رأيا أو عقيدة فلسفية يونانية مختلفة عن عقائد الآخرين، كما سبق وأن بينا ذلك في مقالين: (العقيدة الأرثوذكسية للمذهب الشيعي والمعتزلي، والعقيدة الكاثوليكية لمذهب أهل السنة والجماعة)، مما بدد طاقات المسلمين في جدالات وخلافات فكرية انتهت بالمسلمين إلي عداوات وأحقاد لم تختلف كثيرا عمن انتهت إليه طوائف وفرق النصاري، وهكذا هي طبيعة الفلسفة اليونانية في جانبها الإلهي ما دخلت بلدا إلا وزرعت الوثنية في عقائده ومن ثم الشقاق والفراق بين أهله وما حلت بدين من الأديان إلا وشوهته وقسمته إلي عدة أديان متنافرة فيما بينها. أما في الجانب الإنساني والعقلي من الفلسفة اليونانية فلا يستطيع أحد إنكار ما في هذا الجانب الفكري من منافع كثيرة ومتعددة للجنس البشري، فقد استفاد المسلمون كثيرا من هذا الجانب الإنساني والحضاري في الفكر اليوناني، فقد ترجم المسلمون هذا الجانب وقاموا بتقويمه وتطويره والزيادة عليه وتنفيذه علي أرض الواقع، وقام المسلمون أيضا بحركة بناء وحضارة عظيمة اعترف بعظمتها الأعداء قبل الأصدقاء، فقد كان لهم السبق الأول في هذا البناء الحضاري العظيم والذي قام الغرب فيما بعد باقتباسه من المسلمين والبناء عليه حتي وصل الغرب إلي ما هو عليه الآن من حضارة وسبق وتقدم في الجانب الحضاري والمادي. ورغم كل هذا البناء الحضاري الذي شيده المسلمون في الجانب المادي بسبب الانفتاح علي الجانب الإنساني من الفكر اليوناني من ناحية، إلا أن الجانب الإلهي من الفلسفة اليونانية كان يعمل في الخفاء والعلن علي هدم عقائد وعقول ودين المسلمين من ناحية أخري، مما وصل بالمسلمين في نهاية المطاف إلي التوقف تماما عن استكمال هذا البناء الحضاري والمادي وتقهقر المسلمون إلي الوراء وإلي نقطة الصفر من جديد. وبالتالي لم يحدث هناك تراكم، فقد حالت المعتقدات الدينية الوثنية اليونانية للفرق المختلفة من المسلمين بينهم وبين وجود هذا التراكم الذي كان من الممكن أن يصنع المعجزة، واستبدلوا بهذا البناء الحضاري وبصروح العلم التي شيدوها ذلك الموروث الوثني للفكر اليوناني متمثلا في عقائد السنة والشيعة والصوفية مما أدي بالمسلمين إلي حالة من التخلف المزري في كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. إذن فليس الحال كما يدعي البعض أن الصراع إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان بين عقلين: عقل عربي أصيل يرتبط ويتقيد بالنقل والنص، وعقل آخر متأثر بالعقل الغربي عن طريق الاتصال بالفكر اليوناني عبر حركة الترجمة، بل إن الحال كان صراعاً بين جانبي عقل واحد قد تأثر جانب منه بأفكار فلسفية يونانية إلهية وثنية، وجانب آخر قد تأثر بالفكر الإنساني من الفلسفة اليونانية. فقام الجانب الإلهي من هذه الفلسفة بهدم ما تم بناؤه بالجانب الحضاري، فليس النص الديني بذاته هو الذي أشعل شرارة الصراع بين العقول العربية المختلفة، إنما الذي أشعل الصراع في الحقيقة هي الآليات الفكرية العقائدية اليونانية الوثنية التي استخدمها المسلمون في قراءتهم للنص الديني ومحاولة تأويله من خلال هذه الآليات الغريبة وغير المنبثقة من النص الديني ذاته، كمن حاول أن يفتح قفلا بمفتاح ليس مفتاحه. للحديث بقية