هذا بعض من سيرة نفسي.. والإنسان لا يسير وحيداً في الحياة.. يكون طيباً أو غير ذلك.. يقابل الطيب أو المتحول أو غيرهما.. أسترجع الأيام لعلي أتمكن من استجماع جديد لخبراتها.. أعيد تقييم المجريات لعلي كنت مخطئاً. هذه السيرة قد تنتهي الآن قبل أن أكتب السطر التالي.. لا أحد يعرف.. وروعة الحياة وقسوتها هي أنك لا يمكن أبداً أن تعرف متي تنتهي السيرة.. يمكن جداً أن يقوم الكمبيوتر بإغلاق نفسه قبل أن أحفظ الملف.. (شات داون).. ويمكن أيضا أن يحدث (شات داون) للحياة برمتها.. أنت لا تدري.. المهم كيف سوف يستعيد الآخرون (ملفك) في الحياة. إن من أحببتهم أو لم أكن أحبهم، أو كنت أحبهم ولم أعد كذلك، كان لهم تأثير في حياتي.. غروري يسمح لي بأن أدعي أن ما جري يمكن أن يحكي.. يجوز فيه درس ما.. ربما أمكن استخلاص حكمة من بين كلماته.. وقد تكون تلك الحكمة غير منظورة لي إلي الآن حتي وأنا أروي.. بينما يدركها الآخرون دون أن أدري. لا أقصد شخصاً. أقصد جيلاً. ولا أستهدف فرداً. أستهدف تجربة.. أنشط ذاكرتي لكي أتعلم.. التجارب لا تنتهي بمضي السنوات.. وقد كانت نقطة بداية هذا الحكي هي أنني تأثرت فعلاً بغضب عدد من الزملاء الصحفيين الذين شعروا بأن حياتهم تنتهي حين تغيرت شئون جريدتهم (الدستور).. أنا مررت بهذا الموقف مرات في حياتي.. وقد تعلمت من كل منها.. وقلت: لعل فيما أروي ما يفيد. حين دخل الأستاذ الفاضل محمد عبدالمنعم، المستشار الصحفي السابق للرئيس مبارك، ومدير تحرير الأهرام وقتئذ، حين دخل إلي مكتبه في «روزاليوسف» في ربيع عام 1998 رئيساً للتحرير ورئيساً لمجلس الإدارة، كان معبئاً ضد مجموعة الصحفيين الذين عملوا في الفترة السابقة عليه.. ونسبت إليهم المشكلات.. بدأ كلامه بالحديث عن (الخابور اللي اسمه الديسك).. وكنت أنا رئيس هذا الديسك.. تلاحقني شائعات أن الدولة سوف تنقلني أنا وبعض زملائي إلي جريدة الأهالي.. لم أبحث عن المنطق في الشائعة.. كيف يمكن أن ينتقل الصحفي من مؤسسة قومية إلي جريدة حزبية؟! كانت أياماً عصيبة. غير أنه حين ترك محمد عبدالمنعم موقعه في «روزاليوسف» كان أن تركني رئيس تحرير ل«روزاليوسف».. وكنت ولم أزل أقر بفضله.. هذا الرجل الذي كان الكثيرون يطلقون عليه أوصافاً حادة وصعبة.. كان من أهم من أثروا في حياتي.. أدين له.. بينما تصورت أنا وزملائي أنه سوف يحول «روزاليوسف» إلي معسكر اعتقال.. لكن تلك قصة أخري. كان عادل حمودة يصطحبني يومياً، تقريباً، في سيارته، في طريقه إلي بيته.. كان يسكن في مصر الجديدة.. وكنت أسكن في حدائق القبة.. كانت سيارته وقتها بولونيز.. وصارت فيما بعد فيات أونو.. ثم أصبحت في غضون سنوات بيجو.. أسهمت علاقات زميلنا إبراهيم خليل الوثيقة مع عائلة الأباظية في تقسيط سعرها.. كان يتركني أمام جزارة عبدالجليل في شارع ترعة الجبل.. وكنا نتكلم كثيراً.. وكنت أشكره.. وقبل أن أصعد إلي بيت أسرتي أذهب إلي مقهي طايع.. حيث ألعب عشرتين طاولة.. للدقة (عشرين عشرتين). وكان حمودة يحكي لي عن الأستاذ صلاح حافظ.. يروي كيف تعلم منه.. وكيف قال له: إن عليك أن تقوم بدورك في «روزاليوسف».. كنا جميعا نحب الأستاذ صلاح.. علامة في تاريخ المجلة.. لكنني شخصياً لم أتعامل معه علي الإطلاق.. كنت ألمحه فألتصق بالحائط وجلاً إلي أن يمر.. رغم تواضعه الشديد.. وفيما بعد وقت قصير جداً من بداية التحول في «روزاليوسف» في 1992 كان أن داهم السرطان الكامن في جسد الأستاذ صلاح كل قواه.. فأدخله مستشفي المعادي.. ذهب إليه عادل حمودة بعدده الأول.. نظر صلاح فصنع ابتسامة خفيفة.. ولم يعلق.. وصارع المرض سنين ولم يكن أحد يزوره خلالها من الذين قالوا إنهم تلاميذه.. وينقل عن حمودة أنه قال إنه لم يكن يطيق أن يراه هكذا.. غير أنه كتب فيما بعد عكس ذلك.. ونشر صورة بدا فيها صلاح هو الذي يقدم له فنجان الشاي.. أو القهوة.. لم أكن معهما. الأستاذ فتحي غانم رفيق الأستاذ صلاح في دربه كان شيئا آخر.. عملاق المكانة والجسم.. كان أقربنا إليه الزميل عصام زكريا الناقد السينمائي المعروف.. لأن الأستاذ فتحي محترف شطرنج.. وعصام كان بطلاً مصرياً.. عين أولاً في مصر للطيران بسبب الشطرنج.. وكان يكتب في «روزاليوسف» أدواراً للعبة يناقشه فيها الأستاذ الكبير الراحل.. وذات مرة عرفت أن فتحي غانم رأي في التجديد الذي لحق «روزاليوسف» بدءاً من 1992 أنه (صحافة فيشار).. وأعترف بأنني لم أفهم.. ولم أستوعب أن هذا يعني أننا لا نقدم للقارئ لحماً وخبزاً يطعمانه من جوع.. وإنما نسليه.. غير أساسيين. وكنت أزور الأستاذ محمود عوض من حين إلي آخر.. أذهب إلي بيته بجوار كوبري الجامعة وسفارة إسرائيل.. فنجتر ذكريات تجريته المؤقتة في جريدة «الأحرار».. ونتناقش.. ويبدو لي كما لو أنه يكمل ما لديه من شغف بأحوال الصحافة من خلال أسئلة كثيرة.. ويدفعني إلي الحكي بعبارة مذهلة تعلمتها منه فيما بعد: (لا ياشيخ!).. وهي تعبير استفهامي مندهش يشجع من يتكلم علي أن يكمل فيخرج ما لديه.. ولم أكن عموماً في حاجة إلي ذلك.. فقد كنت أحب أن أحكي مع الأستاذ الراحل.. وفي نهاية الكلام كنت أنصت وأستمع. ذات مرة تكلمنا في ما يجري في «روزاليوسف».. كنت متحمساً.. وكان متحفظاً.. وحكي لي عن محرر من جريدة الشعب أجري معه حوارات عن النكتة في مصر.. وأنه فوجئ فيما بعد بأن خلاصة الحوارات (مع غيرها) أصبحت مادة في كتاب عليه اسم عادل حمودة وليس عليه اسم المحرر.. الكتاب اسمه (النكتة السياسية في مصر).. وسألته عن رأيه في «روزاليوسف» والتجديد الذي فيها.. فقال (قزقزة لب). انزعجت جداً.. (فيشار).. ثم (قزقزة لب).. وقلت لنفسي غاضباً: مال أولئك يحللون الأمر علي أننا في (مقلة) لا (مجلة)؟ لكنني لم أكن مستعداً لأن أستوعب عمق ما قال فتحي غانم وكنه ما قال محمود عوض. ونكمل غداً الموقع الالكتروني : www.abkamal.net البريد الالكتروني : [email protected]