جلال أمين واحد من أهم المثقفين المصريين في نصف قرن وتجربة حياته رائعة يندر تكرارها منذ بدأ وعيه بالحياة وهو يحاول أن يفهم ما الذي يدور حوله.. من أول علاقة والده بأمه وحتى حزب البعث الاشتراكي؟! جلال أمين تكتسب كتب السيرة الذاتية أهميتها من أهمية أصحابها، فالسيرة الذاتية «لأبي حامد الغزالي»، واعترافات «الشعراني»، وأيام «طه حسين»، و«حياتي» «لأحمد أمين» و«أوراق العمر» ل«لويس عوض»، وغيرها وغيرهم، اكتسبت كلها أهميتها من أهمية مؤلفيها أو أصحابها.. فهل الدكتور «جلال أمين» مهماً لتصبح سيرته الذاتية أو تجربة عمره مهمة لتصدر في كتاب أو أكثر. والإجابة عن هذا السؤال هي «نعم» عشر مرات.. نعم هو رجل مهم وفي رأيي أنه واحد من أهم المثقفين المصريين في الخمسين سنة الأخيرة.. وتجربة حياته تجربة رائعة نادر أن تتكرر.. وكتاب «رحيق العمر» من أجمل الكتب التي قرأتها علي كثرة ما قرأت وأكثرها فائدة وإمتاعاً.. إنه رجل مهم لأنه استوفي شروط الأهمية فحصل علي أكبر الدرجات العلمية.. وهو أستاذ جامعي.. ومؤلف وكاتب ومشترك في حياة وطنه وأمته.. ومتفاعل مع طموحاتها وخيباتها للمكسب أو الخسارة.. و«رحيق العمر» ليس ثاني كتاب عن تجربة حياة «جلال أمين»، بل هو الكتاب الثالث.. فأنا أعتبر أن كتابه «ماذا حدث للمصريين؟» هو بداية سيرته الذاتية والثاني هو «ماذا علمتني الحياة؟». الكتب الثلاثة تعكس فكر رجل حصَّل قدراً كبيراً من الثقافة والمعرفة والتجربة وظفها جميعاً في فهم الحياة.. الحياة عامة بجوانبها المتعددة فهو دائب السؤال والإجابة عن كل شيء تقريباً. لم يترك منحي في مناحي الحياة التي عاشها لم يتحدث فيه.. من مولده حتي تجاوز السبعين.. وحتي ما بعد الحياة.. فقد ناقش الموت وفلسفته وأهميته في حياة الناس.. عندما تعلم أو وافق علي أن الحياة محدودة ولم يكن يعتبرها كذلك.. وهو تحدث عن محدودية الحياة ولكنه لم يقل لنا ما المدة ما دامت محدودة؟.. ولعل هذا هو السؤال الوحيد الذي لم يجب عنه لسبب بسيط أن نهاية الحياة مفتوحة ومتروكة لقوي أخري خارج نطاق معرفتنا وخارج نطاق قدرتنا وهي السر الذي تعمل عليه كل الأديان. وواضح أن «جلال أمين» منذ بدأ وعيه بالحياة وهو يحاول أن يفهم ماذا يدور حوله من علاقة والده بأمه.. إلي أسباب حرب «العراق» ونتائجها مروراً بانضمامه إلي «حزب البعث العربي الاشتراكي».. إلي انضمامه للحزب الشيوعي.. إلي دراسته المعمقة والموسعة عن الرأسمالية ودورها في تحديث العالم وتخريب العالم في الوقت نفسه. كل هذا و«مصر» هي همه الأكبر.. يقول في الفصل الثاني وفي صفحة 214 وتحت عنوان «ماذا يحدث لنا في مصر؟».. يقول الدكتور «جلال»: قال لي صديق ذهب إلي «باريس» في بعثة للدكتوراه في القانون إن أستاذه الفرنسي قال له في «باريس» عندما أتم دراسته للدكتوراه.. أنتم أيها الطلبة المصريون طلبة ممتازون وأذكياء وذو قدرة لا شك فيها علي الابتكار، ولكن ما الذي يحدث لكم عندما تعودون إلي «مصر»!! ويجيب الدكتور «جلال» عن السؤال بعد أسطر: إننا نبدو بعد عودتنا وكأن شعلة ذكائنا قد انطفأت وفقدنا القدرة علي الابتكار.. ثم يقول استكمالاً للإجابة أن التفسيرات الممكنة لهذا التحول المدهش كثيرة، مصاعب الحياة اليومية، الاضطرار للتركيز علي الأعمال المدرة للدخل لتكملة روايتنا الهزيلة مما يسمح لنا بمستوي المعيشة الذي نعتبره مناسباً لطبقتنا الاجتماعية والشهادة العالية التي حصلنا عليها، إفساد السياسة للحياة الجامعية سواء بالإرهاب أو الإغراء.. ثم يضيف بعد سطور: ولكن هناك تفسيراً أبسط وأوضح وهو أننا مجرد أن نصل من الخارج، ونلتحق بجامعاتنا لممارسة التدريس نجد أن ما يطلب منا من أعباء التدريس يستوعب كل طاقاتنا ولا يترك لنا أي وقت لأن نقوم بعمل علمي مبتكر. لقد لخص «جلال أمين» في هذه السطور مأساة المصريين جميعاً فإذا كان هذا ما يحدث لحملة الدكتوراه، فماذا يحدث لحملة الدبلومات وماذا يحدث لمن لا يحمل لا الدكتوراه، ولا الدبلوم. كان «جلال أمين» أصغر إخوته الثمانية، وقد قرر منذ وعيه المبكر أن عليه أن يتجاوز صغره ويكبر سنه سريعاً.. وأعتقد أن رحلته الدراسية إلي إنجلترا هي أساس عقلانيته الصارمة وصراحته الصادمة.. ولعل علاقته الوقتية بأستاذه المفكر «أيار» هي السر في تشبعه بالروح الإنجليزية إلي حد بعيد.. إنها روح الالتزام بالواجب، يقول: كثيراً جداً مما كتبته وفكرت فيه كان الدافع إليه التزاماً مفروضاً علي فرض، وجزء كبير من قراءاتي كان للأسف إما استعداداً لامتحان وإما إنهاء لرسالة للحصول علي شهادة وأما استجابة لإلحاح بإلقاء محاضرة أو كتابة مقال. ولعل «جلال أمين» فاته أن جزءاً كبيراً من نجاح أي شخص هو قيامه بالعمل تحت ضغط تماماً مثل لاعب الكرة الذي تكمن قيمته في اللعب وإحراز الأهداف تحت ضغط وليس في ملعب خال من اللاعبين. وهو وقد تحرر إلي حد بعيد من قيود واجب الكتابة، وانتقل إلي هواية الكتابة يجد لذة ومتعة في أن يكتب ما يشاء لمن يشاء، وهكذا ظهرت كتبه التي كتبها ليمتع نفسه ويمتعنا أيضاً.. وهو قد كتب نحو أربعين كتاباً منها تسعة بالإنجليزية وترجم ستة كتب.. فإن أكثر هذه الكتب أعيد طبعه مرات وبعضها أعيد طبعه في السنة نفسها. وكتابه «ماذا حدث للمصريين؟» الذي تعددت طبعاته في سنوات قليلة اعتبرته جزءاً من سيرته الذاتية «فالأنا» موجودة في كل الصفحات تقريباً.. أنا أري.. أنا أتصور.. أنا مقتنع أو غير مقتنع معناه أن هذا الرصد لحياة المصريين يتم من خلال مصفاة أو غربال ثقافته ورؤياه ومعايشته. وهو منذ صباه يطمح في حل مشكلات الحياة.. وعندما كبر وتثقف أكثر تصدي لحل المشكلات الفلسفية من «سقراط» إلي «زكي نجيب محمود» مروراً «بهيجل» و«شوبنهاور» و«سينبوزا» و«سارتر».. وغيرهم.. وهو قد سمع واستمتع بموسيقي «باخ» و«بيتهوفن» و«سبيلبس» وصولاً إلي «سيد درويش» و«عبدالوهاب». وهو قد طمح في أن يضع أساساً لكل الفنون.. أو قاسماً مشتركاً لكل الفنون.. من موسيقي ومسرح وشعر ورسم وسينما.. إلي آخر قائمة الفنون المرئية أو المروية أو المرسومة إلي آخره.. فأنت تسمع الموسيقي وتتوقع تتابع الإيقاع أو النغمة القادمة ثم تتوقع ما بعدها.. هكذا تحس وتفكر، وسألتني ابنتي الوحيد ونحن نناقش هذه الفكرة أو هذه النظرية: ما التوقع في لوحة تشكيلية؟.. وأدركت أن الفكرة أو النظرية تحتاج إلي مناقشة أطول. و«جلال أمين» في جميع مراحل حياته الفكرية يقف علي يسار السلطة وهو الموقف الصحيح لكل مثقف حقيقي.. والمرحلة الوحيدة التي يبدي رضاه عنها سنوات قليلة من حكم «عبدالناصر»، وهو معجب بالمرحلة الناصرية في مجملها «وأتفق معه في هذا تماما الاتفاق». لقد أشار في مقدمة «رحيق العمر» إلي صديق لفت نظره إلي أهمية الحديث عن تطوره الفكري، وقد كنت هذا الصديق، وربما وأقول ربما هذا ما دفعه إلي أن يكون «رحيق العمر» هو تجربته أو رحلته الفكرية أكثر من رحلته المادية من طعام وشراب وجنس، وقد مس ذلك مساً رفيقاً كافياً. و«رحيق العمر» ليس العنوان الضروري لهذه الرحلة الضخمة، فهو عنوان يصلح لديوان شعر، لهذا اخترت له عنواناً فرعياً لعله أكثر دلالة علي محتوي هذا الكتاب الهائل، كما أنني أعترض بهدوء علي اعتذاره في المقدمة عن بعض ما كتب في «ماذا علمتني الحياة؟»، فما قاله في الكتاب هو ما أعطي للسيرة طعمها ومذاقها الحار. وليس «رحيق العمر» هو الجزء الثاني «لماذا عملتني الحياة؟».. إنها نفس التجربة ولكنها مصورة بأكثر من كاميرا.. و«ماذا علمتني الحياة» هو الفيلم.. والفيلم يصور بكاميرا واحدة و«رحيق العمر» هو المسلسل الذي يصور بأكثر من كاميرا، وآخذ هذا التشبيه البليغ من الشيخ «الشعراوي» الذي سألته مرة ونحن ننتظر الطائرة في ميناء «جدة» لماذا تكررت؟. قصة «سيدنا موسي» في القرآن أكثر من مرة.. تختلف إحداها عن الأخري فقال بذكائه المعهود إنها قصة واحدة صورت بأكثر من كاميرا.. أو صورت «فيديو». إنني بالطبع لا أستطيع أن أكتب عن كل ما جاء في هذا الكتاب المدهش ولكني ما استطعت أن أكتب عن مجمله.. ولا أنسي قبل أن أختتم هذه السطور بالرسائل الرائعة التي تبادلها مع إخوته خاصة شقيقه الصديق الكبير «حسين» وهو الباقي منهم علي قيد الحياة، أمد الله في عمره.. وأعطاه الصحة والعافية.. وهي رسائل تستحق أن يفرد لها كتاب كامل فهي محملة بعبق الستينيات الرائعة.. والقضايا الفكرية التي كانت مطروحة عالمياً ومحلياً، وهي رسائل تضع العواطف جانباً وتدور حول الفلسفات والأفكار والموسيقي، وكل ما يهتم به مثقف في حجم «جلال أمين». لقد كان واضحاً من أول سطر أن هذا المثقف الكبير يحمل طموحاً هائلاً لتحقيق الذات والتفوق في سباق الحياة.. وقد تحقق له الكثير، ورغم حديثه في آخر الصفات عن الخيبات التي يلقاها الإنسان في مسيرته والأحلام التي تتحطم بمرور الوقت.. ولكنه في النهاية راض عن رحلته.. راض عن أسرته وأبنائه.. سعيد بزواجه من سيدة رائعة شاركته معارك الرحلة وجابت معه أنحاء العالم وساندته عن قناعة ورضا. نعم.. إنها رحلة حياة رجل مهم.. تستحق أن تنشر وأن تقرأ.. ويقول الصينيون: «إنه من المهم أن نعيش في فترة مهمة من الزمن».. وقد عاش «جلال أمين» في فترات مهمة في زماننا ولهذا هو رجل مهم في زمن مهم.