لست أزعم أنني أحببتك منذ تلك اللحظة التي التقيت فيها بك في مخازن الشركة في الهرم، ذات يوم في شهر مارس منذ أعوام طويلة، فقد كنت أريدك خضراء أو حمراء، ولكن تلك الدفعة من السيارات، دفعتك يا عزيزتي، كانت رمادية بلون تراب القاهرة. وخضعت للأمر الواقع، واستلمتك، ومن حي الهرم إلي المهندسين قدتك بكل حرص وبكل ما أملك من براعة، فقد كانت هي لحظاتك الأولي التي تخرجين فيها إلي الشارع وتمشين بين السيارات الأخري والأتوبيسات الضخمة وعربات الكارو والبشر المجانين الذين يتراقصون أمامك ومن حولك. لم تكن أجزاؤك ناعمة ولينة كما أنت الآن، جاءت علّي لحظات كنت أشعر فيها أنك ترتجفين وتهتزين بعنف عندما كنت أضغط علي فراملك، بل كنت ترتجفين ولا تستجيبين بنعومة لذراعي عندما كنت أنعطف بك يمينا ويسارا.. ومع الأيام بدأت تنشأ بيني وبينك علاقة ألفة وصداقة ما لبثت أن تحولت إلي حب حقيقي، وأشهد الآن أمامك وأمام التاريخ أنه بدونك لم يكن من الممكن أن أكتب مسرحيتي (الكاتب والشحات) فقد كنت أنت ملهمتي لكتابتها.. في ذلك الوقت، كانت هناك في مصر جراجات تنام فيها السيارات إلي أن تغيرت الأيام وبت تنامين في الشارع بجوار الرصيف تماما كالمشردين الذين لا مأوي لهم، هكذا حكمت الأقدار، ولكن صدقيني.. لم أكن سعيدا بذلك، ولكن ما باليد حيلة. ومع مرور الأيام، بدأت أكتشف الصفات المشتركة بيننا، اللون الرمادي.. سرعة الاستجابة.. تواضع الشكل وقوة المضمون. . كنت أتركك بجوار الرصيف أسابيع طويلة عندما أكون خارج القاهرة، صيفاً أو شتاءً، في وحل الأمطار أو تحت أشعة الشمس الحارقة، ولكنك بمجرد أن يلمسك مفتاح الكونتاكت، كان موتورك يدور علي الفور ويهدر في قوة وفرحة وزهو.. أشهد أنك لم تخذليني يوما واحدا، ومن الغريب أنه حتي الآن لم تمتد يد ميكانيكي لتفتح موتورك أو تعبث في أعماقك. كنت أمدك بأغلي البوجيهات وأطعمك أفخر أنواع الزيوت والشحومات، كان حرصي علي صحتك يفوق حرصي علي صحتي، وفي المرات القليلة التي كان ينتابك فيها العطب، كنت أسرع بك إلي أكبر الأخصائيين في علم الميكانيكا.. تذكرين في البداية أن درجة حرارتك كانت ترتفع باستمرار بدون سبب واضح، وكان هذا يدفع الحزن في قلبي، ولكن تلك المحنة انتهت بتركيب رادياتير نحاس بدلا من الألومنيوم. هل تذكرين ذلك اليوم الذي حدث لك فيه انسداد في الكاربراتير، لم أنم ليلتها من القلق، إلي أن تم غسل التنك وغسل كل مواسيرك،بعد ذلك نمت مرتاح البال والضمير بعد أن استمعت لصوت موتورك الحلو الناعم وهو يعزف لحن العافية والصحة.. إنني أريد أن أثبت لك شيئا واحدا... كنت أحبك.. وما زلت، ومع ذلك، وبكل الألم.. أخبرك بأننا سنفترق. الفراق هو سنة الحياة، كل شيء وكل علاقة مصيرها إلي فراق .. لا تتصوري للحظة واحدة أن عيني زاغت علي سيارة أخري، فلم تخرج المصانع بعد من تحتل مكانك في قلبي حتي ولو كانت الزلمكة.. المسألة ببساطة هي أن الأيام قضت بأن أسافر في مهمة طويلة. عزيزتي، عفوا، أنا في حاجة لثمنك..ولكني لن أبيعك إلا لمن يعرف قدرك ويقدر تاريخك معي ويحافظ عليك ويعاملك بما تستحقين من رعاية وحب.. سأفعل ذلك والألم يمزقني.. يارمادية بلون الأيام.. يا قوية مثل الفرس الجميل.. يا سريعة.. يا ثابتة علي الطريق.. يا قليلة الاستهلاك.. يا أصيلة ومعاصرة.. يا سيارتي.. يا جملي.. ياسبعي إهئ.. إهئ..