لا يظهر الكثيرون تفاؤلاً من أي نوع بينما تبدأ المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين يوم الخميس المقبل، وقد يكون هذا هو أحد العوامل التي تفيد المفاوضات.. لولا أن هناك عوامل معاكسة كثيرة جدًا تأتي من تل أبيب وغيرها. يكون التشاؤم مفيدًا لأنه يعني أن الرأي العام، وبما في ذلك المفاوضون، ليست لديهم توقعات كبيرة عما سوف يجري، لن يكون هناك إحباط إضافي، فهذه المشاعر القاتلة موجودة بالفعل.. قبل أن يفتتح الرئيس أوباما الحدث علي (إفطار/ عشاء) مساء غد الأربعاء بحضور الرئيس مبارك الذي سافر خصيصًا.. باذلاً كل هذا الجهد من أجل أن يعضد أي تحرك يمكن أن يحرز ولو فائدة بسيطة من أجل القضية الفلسطينية.. وقد قال مبارك في باريس أمس: إن مصر سوف تكون في قلب أي جهد من أجل تحقيق السلام. إن انخفاض مستوي التوقعات قد يحرر المفاوضين من القيود.. ويطلق أفكارهم.. فيجدون حلولاً غير منتظرة.. لكن هذه الحالة النفسية التي تحيط بالحدث السياسي لا بد أن تلفت نظر الولاياتالمتحدة، باعتبارها راعية للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وباعتبار أن الرئيس أوباما قد تعهد مرارًا بأن يدفع بالوصول إلي تسوية.. ذلك أن هذا الإحباط هو نفسه ما حذرت منه مصر مرارًا.. باعتباره طاقة مدمرة.. تقوِّد الشعوب إلي تصرفات تضر بالاستقرار.. وتقوض الأمن.. وتفجر الشرق الاوسط أكثر مما هو عليه وفيه، ليس أخطر من الإحساس الكامن في النفوس بالظلم. ولعلها المرة الأولي التي تذهب فيها أطراف إلي مفاوضات مماثلة، بينما الغالبية المشاركة تقول إنها لا تأمل خيرًا، وأنها لا تتوقع أملاً، بل إن الذين يريدون أن يصنفوا علي أنهم متفائلون يذهبون إلي غرف التفاوض وهم لا يقولون شيئًا.. ويكون اختيارهم الصمت نوعًا من الإضافة.. فالعملية لا ينقصها أن تجد معوقًا جديدًا.. وهي عامرة فعلاً بمقومات لا تؤدي إلي نجاح.. يكفيها ما يصرح به نتانياهو كل يوم. حين تصل إلي واشنطن، وتجد في مواجهتك هذا النوع من الفتور العام الذي يناقض حدثًا يفترض فيه أنه كبير وسوف تشهده العاصمة الأمريكية خلال ساعات.. لا بد أن تتساءل: لماذا إذن يذهب الجميع إليه؟ إن الفلسطينيين سوف يأتون لأنهم لا بد أن يواصلوا النضال بكل السبل السلمية، لأنهم يريدون اعترافًا بالدولة التي تبني بالفعل علي الأرض في الضفة، ولأنه لا يمكن أن تحصل علي الاعتراف بدون أن تعمل من أجله، ولأن أبو مازن يريد أن يكون هناك طلب من شعبه علي السلام.. فلو فشل التفاوض تماماً لكان البديل هو التطرف.. والتطرف قد يكون طريقًا للخلاص من الظلم ولكن الشعوب تخسر الكثير وهي تدفع ثمنه، وهو يأتي إلي واشنطن لأنه لا يريد أن يكون رافضًا للتفاوض أمام العالم الذي يعينه وهو يبني مؤسسات شعبية.. البناء يحتاج تمويلاً.. والتمويل يأتي من خلال المعونات.. إن الدول لا تُعلن فور التعبير عن النوايا.. بل لا بد أن تكون لها موجودات علي الأرض، كما أنه يذهب لكي لا يجدها نتانياهو فرصة ويواصل نهب الأرض بالاستيطان في ظل التراخي الدولي. مصر تذهب إلي هناك لأنها تتحمل مسئولية تاريخية تجاه القضية الفلسطينية، ولأنها لا يمكن أن تترك الفلسطينيين وحدهم، ولأنها الأكثر مصداقية في الملف ولأنها الأكثر تفاعلاً معه.. ربما منذ بداية القرن العشرين وليس فقط منذ حرب 1948.. ولأنها لا بد أن تعين الأطراف علي أن يتجاوزوا العثرات.. ولأنها تقود الطريق إلي الحل عربيًا من خلال المبادرة العربية للسلام.. ولأنها صاحبة الدور الذي لا يمكن تجاهله.. ولأن رئيسها لا بد أن يقول كلمتها أمام الجميع (والكل يريد أن يسمع) واضعًا إياهم أمام مسئولياتهم التاريخية.. ولأن السلام مهما كان بعيدًا لا بد أن يحاصر المحتلين.. فلو رفعت ضغوطه عنهم لاستمرأوا النهب والظلم.. ولأن مصر لا تريد أي تأجيل جديد.. والذي لا يريد تأجيل السلام لا يمكن أن يبتعد عن جهوده.. أي جهود.. خصوصًا لو كان هذا من مقومات دوره وتأثيره. المعضلة تكمن في الولاياتالمتحدة التي ترعي المفاوضات منذ زمن.. وكان الجميع يتوقع أن الرئيس أوباما سوف يحقق إنجازًا في اتجاه الحل.. خصوصًا حين اشترط علي نتانياهو إيقاف الاستيطان، لكنه عاد عن ذلك، وبعد أن اقترح الأمريكيون المفاوضات غير المباشرة سبيلاً كان أن عادوا ولهثوا مع الإسرائيليين في اتجاه التفاوض المباشر.. وهو ما سوف يبدأ غدًا بكلمات الزعماء الحاضرين في البيت الأبيض. مشكلة إدارة الرئيس أوباما أنها أدركت.. ولكن الفعل الناتج عن الإدراك لا يساويه قدرًا، وقد انتبه الرئيس الأمريكي إلي خطورة تأثير القضية الفلسطينية في العلاقة بين الغرب والمسلمين وإلي خطورتها في التأثير علي استقرار الشرق الأوسط.. ويحسب لإدارته أنها رأت في هذا الملف تأثيرًا مباشرًا علي الأمن القومي الأمريكي.. ويحسب له السعي الحثيث من أجل الحل.. وأن لديه مواقف معلنة.. ولكن كل هذا يتعرقل بمعوقات إسرائيلية في إطار أوضاع أمريكية معقدة.. ما يفقده زخمه وربما التوازن الواجب لكي يؤتي أكله. إن الكثيرين يتساءلون: لماذا تصر الولاياتالمتحدة علي التوقيت المختار الآن لبدء المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ والاجابات في واشنطن كثيرة.. منها مثلاً أنه قد يحل موعد الإيقاف المؤقت للاستيطان في الضفة.. فلا تتوافر فرصة مثيلة نتيجة التصرفات الإسرائيلية.. ومنها أن الرئيس أوباما يريد ألا يحل موعد انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة دون أن يذهب لممثلي العالم وهو يقول أنه قد أحرز ولو نتيجة بسيطة في الملف الفلسطيني.. ومنها أنه سوف ينشغل بعد قليل بانتخابات التجديد النصفي في الكونجرس.. ولن يتاح أي وقت جديد قبل الثلاثاء الأول من نوفمبر حين تعقد الانتخابات. ولا بد أن هذا التحرك الأمريكي يجب أن يحظي بالدعم والمساندة. ولا بد أن نساعد هذه الإدارة في مسعاها.. أي تقدم ولو شكليًا أفضل كثيرًا من لا شيء. لكن الخطورة تكمن في أن الإدارة عليها أن تنتبه إلي أنه لا يمكن أن تتعامل مع الملف الفلسطيني بطريقة أنه لا بد من الوصول إلي أي حل.. وعلي طريقة أن الإدارة وعدت بالانسحاب من العراق فانسحبت دون أن تراعي عشرات من الاعتبارات. الملف الفلسطيني العامر بالظلم وتعقيدات مؤذية لشعب فلسطيني ضاعت حقوقه بسبب تصرفات الحضارة الغربية المعضدة والمساندة والمحفزة لإسرائيل.. هذا الملف مختلف تمامًا.. ولا يمكن الاستسهال معه.. لأن تصرفًا من هذا النوع قد ينفجر في وجه المنطقة كلها. [email protected] www.abkamal.net