كانت البداية متشائمة للغاية, فما إن دخلت إلي تلك المركبة التي تميز مطار دالاس في العاصمة الأمريكيةواشنطن, وتهبط وتصعد كما شاء لها قائدها, حتي وجدت الصديق الدكتور صائب عريقات رئيس دائرة شئون المفاوضات بمنظمة التحرير الفلسطينية. والوزير السابق في عدد من الوزارات الفلسطينية إبان فترة رئاسة ياسر عرفات جالسا داخلها في انتظار الانتقال من الطائرة التي أتي منها إلي داخل المطار. كنت قد عرفت صاحبنا منذ عام1986 عندما التقت المجموعة المصرية في الجمعية العربية للعلوم السياسية في بغداد لأول مرة مع مجموعات عربية أخري كان من بينها تلك المجموعة التي تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة وتعمل في جامعات بيرزيت والنجاح وغيرهما, وكان من بينهم صائب عريقات وعلي الجرباوي وزياد أبو عمرو وغيرهم ممن أصبحوا بعد ذلك نجوما في الساحة السياسية الفلسطينية سواء في داخل الوزارات المختلفة أو في المعارضة أو في الوساطة بينهما. وكان الموضوع الذي اجتمعنا من أجله ولا تتعجب أن يكون ذلك في العراق آنذاك هو دراسة تجارب التطور الديمقراطي في العالم العربي في ندوة حظيت باهتمام كبير من القيادة العراقية في ذلك الوقت; وكانت النتيجة حكاية تستحق الرواية في مقام آخر. وبعد الأحضان والتخلص من آثار سفر طويل حيث كان صائب قادما من عمان في الأردن وأنا من القاهرة من خلال أسئلة سريعة عن أحوال الأسرة, سألته هل تستعد الآن لماراثون طويل من المفاوضات؟ وكان السؤال مبررا, فصائب عريقات كان تقريبا هو القاسم المشترك الأعظم في كل المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية, ويشهد له خصومه قبل أصدقائه بأنه الوحيد الذي يحتفظ بكافة الوثائق الفلسطينية, وهو الذي يعرف كافة التفاصيل ويحفظها عن ظهر قلب, وفوق كل ذلك وقبله كانت نزاهته الشخصية توضع دائما في موضع مقارنة مع آخرين في السلطة الوطنية الفلسطينية لم يكونوا دائما فوق مستوي الشبهات. ولكن صائب فاجأني حينما قال ربما لن تكون المفاوضات طويلة علي الإطلاق, ففي السادس والعشرين من سبتمبر سوف يأتي موعد انتهاء التجميد المؤقت للاستيطان, وما لم يتم تجديده فلن تكون هناك مفاوضات, ونحن مصممون علي ذلك. كانت الإجابة قاطعة وحاسمة, وتحمل في داخلها أن المفاوضات المباشرة التي سوف يلتقي من أجلها زعماء وقادة, يمكنها أن تنتهي قبل أن تبدأ. وجاءت المفاجأة رغم أنني كنت قد استعرضت توا خلال السفر الطويل بعضا من المقالات التي نشرتها صحف عالمية عن المفاوضات المباشرة المقبلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, ولفت نظري نوبة التشاؤم الكبيرة المنتشرة فيها. وفي20 أغسطس الماضي وصف إيثان برونر في صحيفة النيويورك تايمز المفاوضات المباشرة بأنها سوف تكون ما بين الذي لا يريد وغير القادر, وفي مكان آخر ما بين المعوق والعاجز, وكان الأول في الحالتين هو نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي, والثاني كان محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. وعندما حانت الفرصة قبل الرحيل للقاء المسئولين في القاهرة لم يكن في حديثهم ما يعطي ظلا من التفاؤل, بل كان هناك تأكيد مستمر علي أن الجانب الإسرائيلي لم يترك فرصا كثيرة للنجاح, ولكن الواجب يقتضي الوقوف مع الجانب الفلسطيني كما فعلت مصر دائما. وفي فلسطين جاءت التصريحات المتشائمة ليس من حماس أو غيرها من المتشددين فقط, ولكن جاءت أيضا من جماعات معتدلة, حتي إن مصطفي البرغوثي الأمين العام للمبادرة الوطنية أكد أن المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لن تحقق نتائج جيدة. ولم يكن ذلك بعيدا كثيرا عن توقع الفشل الذي قالت به مصادر وزارة الخارجية الإيرانية!. كل ذلك لم يفلح في الإعداد لما قاله صائب عريقات, وما تلي ذلك من كلمات قليلة جري تبادلها من خلال ذلك الطابور الطويل لختم جوازات السفر حتي جري إنقاذ المفاوض الفلسطيني بعد ساعة من الوقوف, وكنا مازلنا في منتصف الطريق, من قبل مسئولين من وزارة الخارجية الأمريكية بعد أن ظهر أن المفاوض الفلسطيني سوف يتأخر عن موعده مع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري رودهام كلينتون في الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم الاثنين الماضي. بعد ذلك توالت نذر التشاؤم لدي كل من اتصلت بهم من جماعة الدراسات والبحوث المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي في مراكز البحوث الأمريكية المختلفة ورغم أن المتحدثين في ندوة عقدها يوم الثلاثاء الماضي معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط, وشاركت فيها, كانت لديهم بعض مظاهر التفاؤل, فإن القاعة كانت مغرقة في أشكال مختلفة من أوصاف يوم القيامة ليس فقط نتيجة فشل المفاوضات ولكن لما سيعقب ذلك من كوارث ونوائب. ولكن ما خفف من مشاعر الإحباط كلها, أن الخبرة بدورات المفاوضات في الصراع العربي الإسرائيلي كانت دوما محاطة بهذا النوع من التشاؤم الذي استمد سواده ويقينه من تلك القدرة الفائقة للصراع علي الاستمرار رغم تغير العصور والأزمنة والنظم الدولية والإقليمية الممتدة عبر أكثر من مائة عام. فلم يؤثر كثيرا في الصراع الانتقال من عصر الاستعمار إلي عصر تصفية الاستعمار, ولا الانتقال من عصر الحرب الباردة إلي ما بعد الحرب الباردة, ولا التحول من العولمة إلي صراع الحضارات, ولكن الصدام كان يبقي دائما علي حاله وإن تغيرت الأشكال والألوان. وهكذا لم يكن الأمر جديدا بالمرة, اللهم في إدراك أنه مقابل هذه الصلابة في استمرار الصراع كانت هناك أيضا صلابة كبري علي الأقل منذ حرب أكتوبر عام1973 في البحث عن سبل لتسوية الصراع نجم عنها اتفاقيتان للسلام بين إسرائيل من ناحية وكل من مصر والأردن من ناحية أخري, وانسحاب جزئي من الجولان, وترتيبات أمنية علي الحدود اللبنانية, وقيام سلطة وطنية فلسطينية علي أرض فلسطينية لأول مرة في التاريخ. وربما كان من أهم نتائج هذا الجدل ما بين القدرة علي استمرار الصراع, والحاجة المستمرة للبحث عن حل أو تسوية له, هو أن الصراع تحول من حالته الوجودية إلي حالة إستراتيجية; وفي الأولي لا يوجد حل لصراع إلا بتصفية طرف للطرف الآخر, وفي الثانية فإن القضية تصبح ذات طابع يمكن الإمساك به يتعلق بالحدود والأمن والناس وما له علاقة بالجغرافيا السياسية من موضوعات. وفيما يتعلق بالبعد الفلسطيني الإسرائيلي فإن الطريق الطويل للمفاوضات الذي بدأ حتي قبل مؤتمر مدريد عام1991, وبعدها علي طريق اتفاقيات أوسلو وتفريعاتها حتي الوصول إلي مباحثات كامب دافيد الثانية, وما عرف بتفاهمات كلينتون في ديسمبر2000, وصيغ طابا في يناير2001, كلها كسرت الكثير من التابوهات التي كان الظن سائدا أنه لا يمكن الاقتراب منها. المدهش أن هذا التيار من التشاؤم كان معاكسا لآراء المواطنين الفلسطينيين والإسرائيليين, التي رغم وجود نزعة تشاؤمية متزايدة إلا أنها مؤيدة بشكل عام لاتجاه التفاوض والبحث عن تسوية. وفي استطلاع مشترك للرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني في شهر أغسطس المنصرم, أجراه معهد هاري ترومان للبحوث في الجامعة العبرية بالقدس, والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله فإن71.5% من الإسرائيليين أيدوا المفاوضات مع الفلسطينيين, كما وافق71% منهم علي حل الدولتين. وعلي الجانب الفلسطيني فإن62.8% أيدوا هذه المفاوضات ووافق57% علي حل الدولتين. وفي المقابل فإنه بينما وافق38.6% من الفلسطينيين علي أن نوعا ما من العنف هو أحسن الوسائل لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية; فإن34.6% من الفلسطينيين يعتقدون أن المفاوضات هي أحسن السبل للتوصل إلي اتفاق, أما19.4% فقد وجدوا أن ذلك يتم من خلال الانتفاضة الشعبية السلمية وغير العنيفة. وربما كانت نقطة الضعف الأساسية هي أن قادة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لا يتمتعون بالتأييد الكافي الذي يسمح لهم بالتوصل إلي اتفاق فنسبة التأييد التي حصل عليها أبو مازن كانت34.6% في يونيو2010 مقارنة بنسبة61.4% في مارس2006, أما نيتانياهو فقد هبط التأييد له من49% في يوليو2009 إلي36% في مارس2010 هل يعود التراجع في شعبية كلا القائدين إلي الفشل في تحقيق السلام, أم أن ذلك يرجع إلي عدم اتخاذهما مواقف أكثر تشددا؟. والثابت هو أن شعبية حماس هي الأخري متدهورة, وبعد أن كان التأييد لها47% في مارس2006 فإنه أصبح18.9% في يونيو2010, والحال كذلك بالنسبة للمعارضة الإسرائيلية حتي إن الحالة باتت نوعا من فقدان الثقة في الطبقة السياسية كلها. ولكن الأمر المهم هنا هو أن التوجهات الشعبية التي تؤيد حل الدولتين وأسلوب التفاوض أو المعارضة السلمية كلها ينبغي أن تخفف من كثافة التشاؤم السائد في دوائر متعددة تراقب الصراع العربي الإسرائيلي. وربما كان الأمر كله هو أن الفشل الدائم علي مدي العقد الأخير, وتواتر العنف والحرب من الانتفاضة الثانية المسلحة حتي حربي إسرائيل مع حزب الله في جنوب لبنان, ومع حماس في غزة, وكل ذلك خلال عشر سنوات يجعل مثل هذا التشاؤم مبررا للغاية. ومع ذلك, ومهما كانت التحديات, فقد دارت العجلة وأخذت دورتها, وحينما سار موكب الصحفيين المصريين من فندق سان ريدجيز في شارع16 في واشنطن في الطريق القصير إلي البيت الأبيض, كانت الحديقة الغناء المواجهة للقصر الرئاسي تعطي فرصة قصيرة للتأمل في الدرجة التي سيكون عليها التفاؤل والتشاؤم ساعة الخروج. وكانت البداية عندما استمعنا إلي خطاب باراك أوباما في حديقة الورد وهو محاط بوزيرة خارجيته هيلاري كلينتون, والسيناتور جورج ميتشل مبعوث الرئيس الأمريكي لمفاوضات الشرق الأوسط. وكان لافتا للنظر أنه قد حدد هدف المفاوضات بأنه إنهاء الاحتلال للأراضي التي جري احتلالها في حرب يونيو1967; وكان ذلك هو ما يطالب به الجانب العربي; النتيجة هي أن تكون هناك دولة فلسطينية ديمقراطية تعيش جنبا إلي جنب مع دولة يهودية إسرائيلية, وهو ما يطالب به الجانب الإسرائيلي. ورغم أن الخطاب كان في عمومه متوازنا, إلا أنه لم يخل من الطعن في قناة الإخلاص العربية حينما أشار إلي أن هناك من يلحون دوما علي ضرورة قيام دولة فلسطينية ولكنهم ليسوا علي استعداد لتقديم أي شيء من أجلها. ولم يمض وقت طويل حتي عدنا أدراجنا إلي غرفة المؤتمرات الصحفية, حيث طلب منا التوجه إلي القاعة الشرقية وكانت تلك هي المرة الأولي التي ندخل فيها إلي داخل البيت الأبيض لكي تبدأ الوفود بعدها في الدخول بدءا من الوفد الفلسطيني, ثم تبعه الوفد الإسرائيلي, وتلاهما الأردني, ثم جاء المصري, ومعه جورج ميتشل وهيلاري كلينتون وأخيرا توني بلير ممثلا للرباعية الدولية. وبعد دقيقة دخل الرؤساء: أوباما ومبارك وأبو مازن والملك عبد الله الثاني ورئيس الوزراء نيتانياهو, واكتمل جمع إطلاق المفاوضات مرة أخري, وكانت نقطة البداية هي خطاب لكل منهم. تقييم هذه الخطب جري ترديده من مصادر متعددة, ولكنها لم تكن مختلفة عن كل بدايات المفاوضات, حيث يحدد كل طرف الإطار العام لمطالبه, تمهيدا لأول الاجتماعات التي سوف تجري في اليوم التالي. وكان لافتا للنظر أن الخطاب المصري كان محددا وحاسما في أنه يأتي إلي المفاوضات لكي يؤيد الطرف الفلسطيني. هؤلاء المفاوضون ومعاونوهم لديهم مجموعة من الأرصدة التي يستطيعون الاعتماد عليها: الأول أن ما يجري وراءه تراث من النجاح تمثل في معاهدتين للسلام كان الوجود المصري والأردني ممثلا له. والثاني أنه قد جري تغيير جوهري في الموقف الأمريكي, وبعد موقف إدارة بوش التي لم تر في الصراع إلا أمرا غير قابل للحل ولا يستحق وقت الرئيس الأمريكي, فإن موقف إدارة باراك أوباما لا تري عكس ذلك فقط, وإنما تري أن هذا الصراع تهديد للأمن القومي الأمريكي. والثالث أن هناك تراكما كبيرا من المفاوضات السابقة في مساراتها الأولي والثانية بحيث تقود كلها إلي ما يسمي بحل الدولتين. والرابع أن هناك مبادرة عربية إقليمية مؤيدة من جانب الجامعة العربية التي خصصت لجنة من الدول العربية لمتابعتها. والخامس أن الإقليم أصبح يشهد نقاطا للتوتر بات عمقها مرتبطا بما سوف يحدث للصراع العربي الإسرائيلي. والسادس أن البديل للنجاح في المعركة الدبلوماسية سوف يعني مزيدا من العنف وربما الوصول لنقطة الحرب. ولكن السياسة لا تعرف أبدا الأرصدة فقط, ولكنها تعرف التبعات والأعباء وأولها حالة الانقسام الفلسطيني; حيث لا يستطيع المفاوض أن يحارب علي الجبهة الإسرائيلية بينما يتم طعنه من الخلف عندما بدأت العمليات العسكرية ضد الإسرائيليين, واستخدمها نيتانياهو بمهارة في خطابه الافتتاحي منوها أن الحادث لم يكن ضد مستوطنين, وإنما تم فيه قتل سيدة حامل, وأخري أم لستة أطفال, وكل ذلك أمام عشرات من شبكات الإعلام الدولية. وثانيها أن في إسرائيل وزارة هي الأكثر تطرفا وتشددا في السياسة الإسرائيلية, وأعضاؤها هم الذين رفضوا كل خطوات السلام السابقة علي أساس أنها أدت إلي زيادة درجة التهديد لإسرائيل ولم تقلل منه. وثالثها أنه لا يوجد وقت كثير لتحقيق النجاح, فالمعارضة علي الجانبين لن تترك مناخ المفاوضات دون تسميمه سواء بالضغط من أجل الاستيطان علي الجانب الإسرائيلي, أو عمليات العنف الفلسطيني التي تضر بالأمن القومي والمصالح الفلسطينية في النهاية. ورابعها قيام الطرف الإسرائيلي بتقديم موضوع له صبغة تاريخية وليست استراتيجية للمفاوضات مثل الحديث عن طبيعة الدولة والقبول به. وفي العالم كله فإن طبيعة الدولة هي نوع من التعريف الذاتي تقوم به الدولة في دستورها فيقول الدستور المصري إن مصر جزء من الأمة العربية, أو تقرر إيران أن تكون جمهورية إيران الإسلامية, وهكذا الحال مع موريتانيا وباكستان, فما دخل المفاوض الفلسطيني في طلب قد يكون معناه تشريد المزيد من الفلسطينيين. وخامسها أن القيادة علي الجانبين كما رأينا تعاني الكثير من مكانتها المتدنية; ولكن ذلك قد يكون دافعا لهم من جانب آخر لكي يحققوا إنجازا في المفاوضات خاصة أن الرئيس الأمريكي هو الآخر في حاجة ماسة لإنجاز تاريخي قبل الانتخابات الرئاسية القادمة. وسادسها أن الموضوعات كلها صعبة كما أوضحتها الأهرام فيما سمته وثيقة عريقات التي أوضحت آخر الصيغ التي وصلت إليها المفاوضات السابقة, ورغم الجهود المضنية لعبور الفجوات فيها إلا أنها لا تزال واسعة. هل يمكن لهذه المفاوضات أن تحقق نتائج إيجابية بعيدا عن نوبات التفاؤل والتشاؤم؟. الإجابة هي نعم, ولكن شرح ذلك ربما يحتاج مقالا آخر; وفي هذه اللحظة فإن ما يهمنا هو مراقبة ماذا تفعل الأطراف المعنية بواحدة من لحظات الصراع العربي الإسرائيلي التي قد تكون فارقة إلي الأمام أو تأخذ المنطقة بأسرها إلي فصل دام جديد. [email protected]