كيف تسللت إلي عقلي هذه الفكرة في نهاية عام 1966، فكرة أنه من الممكن أن نعثر علي كنوز من الخير ثم نتولي نحن إضاعتها ليس بإهمالنا فقط بل بنفوسنا الصغيرة، من أين جاءتني فكرة أن هؤلاء الذين يحكموننا سيخربون مصادر الثروة فيها، كيف فكرت في ذلك بينما الحكم الثوري في أقوي تجلياته، الواقع أن الإبداع ليست له صلة بالمقولات الفكرية أو بحسابات العقل، هذه مهنة الباحثين والمشتغلين بالعلوم السياسية، أما الإبداع الفني فهو يعتمد علي اللا وعي الأكثر صدقا من كل حسابات الوعي، بحسابات العقل كنت كمواطن سعيدا بكل ما يحدث حولي من ظواهر ومظاهرات، أما في العمق فقد كانت أجهزة الإنذار بداخلي تعمل بأقصي طاقة لها، أجهزة الإنذار لا تتعطل مطلقا داخل الفنان، هي تعمل طوال الوقت بعكس تلك الموجودة في المتاحف، الكاميرات بداخلي كانت تلتقط مظاهر عديدة لخطر قادم، لم تكن معطلة كتلك التي ندفع فيها مئات الملايين لتركيبها في المتاحف لنسهل بها عمل اللصوص. دور الوعي في الإبداع الفني محدود للغاية، ولذلك يقال إن الفنان هو آخر من تسأله عن تفسير لما يقدمه من إبداع، هنا بالضبط ينتهي دور الفنان ويبدأ دور الناقد، ليس معني ذلك أنني تنبأت بكارثة 67 كما يقول الكثيرون، لم يحدث ذلك وكاذب من يقول إنه كان قادرا بوعيه علي التنبؤ بما حدث، أنا فقط كنت أشعر علي نحو غامض أو إبداعي أننا نعيش في إطار إداري سيذهب بنا حتما إلي الجحيم يوما ما. أعود لآخر مشهد في المسرحية، أخيرا تذكر الدكتور واحد أبو شرطة أن المشروع الذي يعمل به مسئول عن الانتاج ، هو القمح الذي تم اكتشافه بالفعل تحت الأرض، غير أنه لا هو ولا الموظفون العاملون معه يعرفون شيئا عن هذه الحكاية، ولكنه متأكد من أمر واحد هو أن عم حسين يعرف كل شيء عن المشروع فسأله عنه فقال له حسين ببساطة: لا أعرف شيئا عن هذا الموضوع.. ومعلوماتي أن القمح يزرعه الناس ولا تجده تحت الأرض. وعندما يسأله متولي: لماذا لم تقل له الحقيقة وأن هناك قمحا بالفعل في هذه القماحات؟ فأجابه: لا أصدق أن هذا النوع من البشر يفكر في خير الناس .. وتنتهي المسرحية بمتولي وقد لمع نجمه في ميدان كرة القدم، وبسيوني احتل وظيفة مرموقة أما عم حسين فهو موجود في مكان ما يفكر في طريقة يضمن بها وصول القمح إلي الناس. تقدمت بالمسرحية إلي فرقة المسرح الحديث وكان مديرها في ذلك الوقت هو محمود مرسي رحم الله الجميع. هنا سأتوقف قليلا وربما كثيرا عند محمود مرسي، ربما تعرفه أنت كممثل سينمائي عظيم، وهذا صحيح ولكنه كان أكثر وأكبر من ذلك بكثير، بدأ محمود عمله في الإذاعة المصرية ثم انتقل للعمل في ال BBC في خمسينيات القرن الماضي، وفي عدوان 1956 جمع زملاءه المصريين وتقدموا باستقالاتهم وعاد إلي مصر، بعدها درس الإخراج السينمائي في باريس، وعاد ليواصل عمله مخرجا في الإذاعة المصرية، وبعد إنشاء مسرح التليفزيون قام بإخراج عدد من العروض المسرحية، إلي أن عمل في السينما في أدواره المعروفة المتميزة، هذه ملامح سريعة له من الخارج، أما من الداخل فقد كان إنسانا محصنا ضد الفساد وضد النفاق، شجاعته في إبداء رأيه في كل الأوقات كانت مذهلة في وقت كان من الخطر فيه أن تعلن رأيا ضد ما هو سائد، هذا هو محمود مرسي مدير الفرقة التي قدمت لها مسرحية بير القمح.