الصحافة التي يريد الشعب ان يقرأها هي ببساطة الصحافة التي لا هدف لها الا مصلحة الشعب، لا هدف شخصي يسعي اليه كاتب المقال، ولا هدف سياسي تسعي اليه جماعة ذات توجه سياسي او طائفي او حزبي تمتلك جريدة تنطق باسمها .. الصحافة التي تقدم الصورة كاملة للشعب دون تحيز او توجه نحو فكر معين بهدف معين تلك هي صحافة الشعب .. الصحافة التي تكشف اوجه القصور وتقدم بنود الحل تلك هي صحافة الشعب .. اما تلك التي تقدم ما تحب هي ان يقرأه المواطن وتخفي عن عمد جانباً اخر لا تحب ان يراه، فانها لا تستحق ان تكون جريدة مطروحة بين جرائد اخري في وطن عرف مهنة الصحافة قبل اكثر من مائة وخمسين عاماً مضت، وهي صحافة تعمل تحت شعار المثل العامي البليغ "الغجرية ست جيرانها" وهو المثل الذي يطلق علي احدي سيدات المناطق الشعبية التي دائما ما تتشاجر مع جاراتها لأتفه الأسباب ودائماً ما ينتهي الشجار لصالحها، ليس لأنها علي حق ولكن لانها تجيد الصراخ وتمتلك الحنجرة القوية التي تصدر منها اعلي الأصوات تغطي علي اصوات كل المجتمعين حولها وبذلك يخشاها صوت العقل من السيدات الاخريات ويبتعد عنها خشية الانزلاق معها في مشاجرة قد تنتهي بالعراك البدني الذي يسفر غالباً عن اصابات جسدية، وقد تابعت عدة احداث وقعت علي ارض الوطن خلال الأسابيع الماضية من خلال عدة صحف علي اختلاف توجهاتها وانتماءاتها الحزبية ،والمستقلة والحزبية .. وما شاهدته من صور فوتوغرافية ومقالات سياسية يشعرك بوجود "صراع" علي فرض الرأي، ويا ليته كان صراعاً او تسابقاً علي كشف المشكلة - اي مشكلة - وسرعة الوصول الي حل لها لصالح الوطن والمواطن .. لكنه بدا وكأنه فعلاً صراع علي التشويه المتعمد لكل ما يتم من بناء، وتسفيه لكل ما يقال من رأي مخالف، وكل ذلك من اجل فرض رأي بعينه وسيادة فكر معين حتي وان كان ضد مصلحة المجموع، شاهدت صورة فوتوغرافية كبيرة الحجم في احدي الصحف المعارضة ذائعة الصيت وكانت الصورة لبعض البنايات السكنية في احدي المناطق المكتظة بالسكان، شأن العديد من المناطق الكثيرة التي تكتظ بها العاصمة الكبيرة، ووسط تلك البنايات ظهرت بحيرة من مياه المجاري التي طفحت واغرقت ارض المنطقة لتصبح مرتعاً للحيوانات وملعباً للصغار وسط مياه المجاري .. الصورة بحجمها المنشور بدت وكأنها بلاغ للمسئولين بضرورة الاسراع لانقاذ المنطقة وتلك هي فعلاً مسئولية صحافة الشعب، والذي لا اشك فيه ان مسئولي الحي قد سارعوا بالتحرك لمعالجة الموقف ولقد انتظرت عدة ايام لأري "الصورة" الجديدة لنفس الموقع بعد تحرك المسئولين .. لكنني للأسف لم ارها، واعتقد انني لن اراها، لأن الهدف من نشرها بهذا الحجم المبالغ فيه هو اظهار الصورة السيئة الأولي فقط، ومن خلال تلك الصورة وغيرها من الصور، وباستخدام المانشيتات المثيرة التي اتخيلها صوتاً عالياً مشابهاً لصوت السيدة بطلة المثل سابق الذكر اري تلك الصحف تعمل تحت شعار ذلك المثل المعبر .. اسأل لماذا الاصرار ان تكون الصورة دائماً سلبية سوداء لا امل في بياض تفاصيلها مهما بذل من مجهود لاظهارها، ولماذا "التفنن" في اظهار سلبيات ونواقص هي بالمنطق وبالعقل امر معتاد يحدث في اي منطقة في اي وطن في اي مكان في العالم، ولماذا كل هذه القسوة في جلد الذات التي تصل الي درجة اعاقة السير علي طريق الانجاز في اي مشروع، لماذا كل ذلك الحماس الغير طبيعي في البحث عن النقطة السوداء الصغيرة وكل ذلك الاهمال المتعمد في الاعتراف بالانجاز - اي انجاز - الكبير .. لقد اوجدت بعض الصحف المعارضة مصراً اخري سوداء اللون لا تعرف لها طريقاً مرسوماً تسير فيه، واوجدت شباباً مصرياً غاضباً حانقاً كارهاً لوطنه ولنفسه .. فعظمت السواد واظهرته كغطاء يلف الوطن من شماله الي جنوبه ويحيط به من شرقه الي غربه، وخلدت شاباً اوقعته الظروف في خطأ الانتحار او خطيئة الادمان لتظهره كنموذج لجيل بأكمله .. وكان العنوان اللافت والذي قرأته في اكثر من جريدة هو "مصر رايحة علي فين" .. عنوان يهيل تراب الصحاري علي مدن اقيمت، ومصانع انشئت، وبنية تحتية تأسست، ومدارس وجامعات بنيت، وقنوات اعلامية انطلقت، ودبلوماسية مصرية حكيمة حمت الوطن من بطش ضربات قوي هوجاء تحيط بمصر من كل جانب وفي كل وقت .. عنوان يدعو الي اليأس والاحباط ووأد الأمل ودفن الطموح وتعذيب النفس والكف عن العمل - اي عمل - والاسراع بالجلوس الي جوار اقرب حائط في انتظار النهاية !! الصحافة التي يريد الشعب ان يقرأها هي الصحافة التي تعرف مصر وتحبها وتعظم قدرها وتعلي من مقامها، والصحفي الذي يحب الشعب ان يقرأ مقاله هو الصحفي الذي قرأ تاريخ الوطن باحداثه وشخوصه وانجازاته فأمسك قلمه يكشف المشكلة ويقترح الحل ليبدأ المسئول في العمل واستمرار الانجاز، ليضيف بقلمه انجازاً صحفياً مهما كان صغيراً .. انه بالقطع ليس ذلك الصحفي الذي اختصر مصر في ماسورة مجاري طفحت هنا، وشاب انتحر هناك .. علي الصحافة المصرية الوطنية الصادقة ان تواجه صحافة "الغجرية" حتي لا تصبح امراً واقعاً يمحو تاريخاً وطنياً ناصعاً من اعمال وانجازات اقيمت لصالح الوطن ومواطنيه .