دخل السنجاب من فتحة في جدار البيت الخارجي ومنها إلي شقتنا. في البداية استقر به الحال في المساحة بين سقف الشقة وأرضية الجيران الساكنين فوقنا. ولأن البيوت مصنوعة من الخشب الذي يتراكم علي هيئة طبقات وعوازل، تظل هناك مساحات خالية تسمح لمن يريد من الحيوانات باللهو وحرية الحركة. لكن هذا لم يحدث لنا علي مدار سنوات الهجرة كلها سوي مرة واحدة، المرة التي دخل فيها السنجاب بيتنا. كنا نسمعه يركض فوق سقف غرفة النوم والحمام ويخربش الخشب بأظافره في صوت يشبه الفرملة ويقلق نومنا كل يوم بحركاته البهلوانية لكننا أجلنا الحديث في أمره مع المسئول عن العمارة وانتظرنا أن يخرج من الفتحة التي دخل منها ويا دار ما دخلك شر. في الحقيقة كنا نخجل من كوننا مهاجرين جدداً ونريد أن نثبت أننا تأقلمنا مع السناجب كدليل علي أننا صرنا كنديين. كان هذا قبل دخول السنجاب من فتحة أخري لم نكن نعلم بوجودها في سقف الحمام، فتحة تختبئ في كمرة السقف قريبا من إفريز النافذة. عندما أزلت ستارة الحمام استعدادا لأخذ دوش الصباح، وجدته يقفز هلعا من الصوت ويتسلق الجدار الملاصق للبانيو وقلبي يقفز من مكانه من الرعب وعيناي تتابعان حركته فيما تسلم ساقاي نفسهما للريح (أي ريح لا أعرف، فالشقة صغيرة لكن التعبير أقوي من الواقع). المهم، عاث السنجاب فسادا في البيت، حتي تمكنا أخيرا من محاصرته في المطبخ. انقلب كل شيء رأسا علي عقب، مائدة المطبخ، الكراسي، الأواني، والسنجاب يهرب بسرعة مخيفة ويصوصو ويخربش الأرضية ويختبئ خلف الثلاجة وبغباء لا يري باب المطبخ المفتوح علي السلم الخارجي الذي تركناه منفذا له لو أراد الهرب. يصر علي الاختباء حتي يتأكد أننا ابتعدنا عن المكان. أغلقنا باب المطبخ وتركناه يتخذ القرار الحكيم الذي كنا نعرف أنه سيتخذه لا محالة فالسناجب تتميز بفطنة تحسد عليها لكنها حيوانات جبانة أيضاً وهو ما يبرر اختباءه وتحايله للبقاء. بعد ساعة عدنا إلي المطبخ وجلين، الباب المفضي إلي سلم الحريق مفتوح وقد يغري أصحاب السنجاب بالدخول للبحث عنه وبدلا من أن يكون عندنا واحد، تصبح عندنا مستعمرة. لكنه لم يخب ظننا في ذكائه، كان قد انصرف وترك وراءه علامة حفرها بأسنانه الحادة علي الباب، علامة تشبه حبة البندق. في البيت الكبير الذي انتقلنا للعيش فيه بجوار الغابة، دخل فأران، واحد مات والآخر لايريد أن يرحل بعيدا عن جثة أخيه. وجدنا الجثة خارج نافذة البيسمنت أو البدروم، علي الثلج المتراكم مقدار عشرين سنتيمترا حول النافذة. الفأر الوفي دخل من فتحة صغيرة جدا في السلك الواقي من الحشرات واستقر بين زجاج النافذة الداخلي والزجاج الخارجي الواقي من البرودة. ليس فأرا عاديا، لابد له اسم علمي أجهله، كان فأرا كستنائي اللون، تمتد فوق ظهره خطوط سوداء بتعريجات بيضاء تغطي منتصف الظهر طوليا وتصل من أعلي الرأس إلي الذيل. من داخل البيت، استخدمنا عصا لإخراجه من مكمنه، بلا فائدة. ظل حبيسا هكذا يوما بأكمله يتحرك في مساحة نصف متر صعودا وهبوطا. في الصباح التالي خرجت مرتدية البالطو السميك والبوت العالي وغصت حتي الركبتين في الثلج وأهلت بعضا منه علي جثة الفأر الميت حتي اختفي عن الأنظار. ثم أخذت أحاول إخراج الفأر الثاني بأن أمد له العصا الطويلة لعله يتسلقها ويخرج من فتحة النافذة التي تغوص لمنتصفها في الأرض. عندما أدرك أني لا أريد إيذاءه بالعصا، تسلقها فعلا وخرج للنور. لكنه عاد وسقط بجوار المكان الذي دفنت فيه صديقه وراح يتشممه. بعد فترة وجيزة، وجد العصا ممدودة له من جديد، صعد عليها إلي قمة جبل الثلج الصغير المتراكم حول النافذة وانطلق لا يلوي علي شيء نحو الغابة. قريبا من النهر، سرب كامل من البط البري حط واستقر. تراه تحت الأشجار وقريبا من الماء وتحت الكوبري وعلي الرصيف وتراه يعبر الشارع فتتوقف السيارات ويبتسم السائقون لمشهد بطتين شاردتين يعيدهما صاحب المحل القريب إلي السرب. وتري الأولاد يمرون مع أمهاتهم ويعطون للبط فتات الخبز وبقايا ثمار التفاح والأمهات يعتبرن حلول البط علي المنطقة نزهة مجانية للصغار فيتجمعن عند منطقة البط في أيام العطلة ويثرثرن والبط لا يخاف ولا ينقر يد الولد الممدودة بالطعام ولا يهتم بوجود البشر أصلا. يطير قريبا من الماء ويحط من جديد علي سطح الماء أو علي الأرض قريبا من النهر والناس تتوقف وتتأمل حركة البط من أعلي الكوبري أو عند الشاطئ ويتأكد لها أن الدنيا بخير طالما الحيوانات بخير. بعد أن تحقق قدر من الرفاهية للناس - علي اختلاف طبقاتهم - في المجتمعات الغربية، أصبحت العلاقة بالحيوانات أكثر رأفة مما كانت عليه منذ مائة سنة، أصبح الناس أصدقاء فعليين للحيوانات، المستأنسة والمتوحشة، في المدن وفي الأحراش. سمعت ابني الصغير يقول إن البشرية كلها ستفني بعد فناء النحل بعدة ساعات. إلي هذا الحد النحل مهم في حياتنا؟ ضحك الولد من سذاجة السؤال وشرح لي باطناب نظرية تعلمها في المدرسة، نظرية بيولوجية تشمل الكون كله برعايتها ولا يمثل الإنسان فيها سوي حلقة من حلقات الوجود والمؤسف أنه يعتبر من أشرس الكائنات علي وجه الأرض. والشراسة ليست علي طريقة الفيلم الهندي "الفيل صديقي" الذي يصور مشهد ضرب فيل بالجنزير والفيل مظلوم لأنه لم يرتكب الجريمة التي يتهمه بها صاحبه، ولكن علي طريقة الدمار الكامل لأنواع كثيرة من الحيوانات بهدف الربح والسبب في هذا الدمار غربيون وشرقيون لم يدركوا بعد أن مستقبل البشرية مرهون بالتناغم والتآلف بين كل الكائنات الحية.