لولا الإنسان لما وجدت الأديان، ولولا الإنسان لما وجدت الحياة ولما وجد الموت، ولولا الإنسان لما كانت ثمة كتب سماوية ولا أنبياء ولا شياطين، ولا قيامة ولا حساب ولا جنة ولا نار. الإنسان هو مركز الكون ومحوره، بل هو الكائن الوحيد الذي استطاع السيطرة علي الأرض والقدرة عليها بتوجيه الله له، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استحق وعن جدارة أن يكون سيدًا للكون بلا منازع بتوجيه الله له، ليجلس في علياء هذه الحياة، ليس بمصانعه ولا بما شيده من ترف ورفاهية، ولا بما كدسه من قوة ودمار لاستضعاف بني جنسه وقهرهم، ولا بما حصده وكنزه من أموال وزخرف وزينة وطلاء، ولكن بما يبثه في الدنيا من قيم إنسانية، وفضائل ومكرمات آدمية لنفسه ولبني جنسه وللأشياء من حوله. فكان حقيقاً بالإنسان أن يعرف ذاته حق معرفتها، وأن يقدرها حق قدرها، وكان حقيقاً به أن يعرف أنه هو المرجع لذاته، وليس أي شيء آخر، كان حقيقاً به أن يعرف أنه هو المرجع لسياسته والمرجع لاقتصاده والمرجع لدينه ومعتقداته، فتصبح آدميته هي ميزان الأشياء وضابطها ورقيبها ومقصدها وغايتها ومنتهاها، وليس العكس. لكن ما حدث هو أن (الإنسان) سيد الحياة، قد استعبدته الأهواء والأشياء وأهانته وهوت به إلي وحل العبودية الآسن، فأسقطته إما في مستنقع العبودية للظنون البشرية المصطبغة بالصبغة الإلهية، أو العبودية لهلوسات وخرف الفكر اللا إنساني، أو العبودية للدجل والتخرصات السياسية، أو العبودية لهوس الأطماع الاقتصادية، أو العبودية لشبق الأنانية الفردية الكالحة، أو العبودية لبريق المادة الزائف، أو العبودية لأوهام الرومانسية الخيالية المخادعة، أو العبودية لسفاهة الطائفية العرقية القبلية العنصرية المقيتة، أو العبودية لشهوانية الحيوان اللاهثة، فما أن يسقط في عبودية حتي تجذبه إليها أخري فيسقط ويسقط وتسقط معه آدميته. لقد فطر الله الإنسان حين فطره وليس به ثمة دين يحمله في طيات نفسه أو خلقته، وليس به ثمة إسلام ولا توحيد ولا شرك ولا إيمان ولا كفر، لقد فطره الله فقيرا من كل شيء، خاويا من كل علم، خاليا من كل دين، بعد أن سواه وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا، وجعل له من نفسه علي نفسه بصيرة يفرق بها بين الحق والباطل، بين الفجور والتقوي، بين الهدي والضلالة، بين الظلمات والنور، بين الطيب والخبيث. ثم أرسل له الرسل وأنزل عليه الكتب وعلمه ما لم يكن يعلم، كي لا تكون له حجة في فساده وانحرافه وسقوطه حتي ولو ألقي معاذيره، فلولا الله ولولا الوحي لما علم الإنسان شيئًا عن نفسه ولا عن الكون من حوله، ولما وصل إلي ما وصل إليه من علم وتقدم وحضارة، ولما استطاع أن يرقي من أسفل سافلين. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بل أكثرهم يجحدون ويستكبرون ويكفرون بنعمة الله عليهم، فالإنسان بهذه الخلقة وبهذه الصورة وبهذا التقويم يعد أكرم وأفضل المخلوقات، وبيده هو وحده أن يحافظ علي هذه الكرامة وهذه الأفضلية ليرقي ويسمو إلي عليين، وبيده أن يتنازل عن كرامته وأفضليته ويهوي مرة أخري إلي أسفل سافلين، ولا يسقط الإنسان ويهوي إلا حين تقوده حفنة من أطماعه وأهوائه وشهواته خلف الأشياء وخلف ظنون الظانين وخرص الخراصين، من دون علم منه أو نظر أو إدراك أو بصيرة. «للحديث بقية»