لم أعد أقرأ إلا ما يمتعني ويسعدني ويزيد معرفتي بالحياة! خاصمت قراءة ما يتناول المواطنة والتنمية المستدامة واشكالية النمو في العالم الثالث فقد أصبح مثل هذا الكلام بمرور الزمن مجرد كلام في الهواء رائحة كباب ولا كباب، رائحة عقل ولا عقل، رائحة جدية ولا جدية رائحة صدق ولا صدق!! لم يعد يستهويني الكلام الكبير المطرز بالنظريات والأفكار المجردة والعبارات الفخمة البالغة الفخامة وكلما وجدت كتابة يبدؤها صاحبها بقولة «في الواقع أن» أو «في الحقيقة أهرب فورا. ونفس الشيء ينطبق علي نجوم ومحللي الفضائيات الذين يملأون الشاشات كلاما لا يزهقون من ترديده ونحن لا نريد تصديقه! لكن ذلك لا يمنع أن تجد كتابة تسعدك وتحرضك علي التفاؤل وتنير حياتك ببعض الأمل وتضع يدك علي مواطن القوة في داخلك! من هذه الكتابات التي أحرص علي قراءتها ما يكتبه الأستاذ الدكتور «أحمد عكاشة» وهو قامة وقيمة علمية وثقافية جديرة بكل التقدير والاحترام: مصريا وعربيا وعالميا أيضا! لقد أصدر د. أحمد عكاشة أكثر من سبعين كتابا في الطب النفسي، ولعل كتابة «ثقوب في ثوب الضمير» شهادة مهمة صادقة علي أحوال وطن بكل شرائحه وطبقاته وهمومه! وبدلا من الشكوي - عمال علي بطال - ولعن الزمن والحظ والناس والصراخ والولولة أدعوك لقراءة مقال بديع ضمن كتابة عنوانه «جودة الحياة والنسيج الاجتماعي، هذا المقال بمثابة روشتة مجانية من هذا الطبيب المثقف والإنسان النبيل أيضا». يقول د. عكاشة: «يحاول جاهدا كل إنسان إطالة عمره وإزالة أثار الشيخوخة وتنعقد كل أسبوع المؤتمرات والندوات العلمية والاجتماعية والطبية لبحث أحسن الوسائل لإطالة العمر وبقاء الشباب وينسي الكثير أن طول العمر دون وجود حياة هو مغنم أجوف. تعرف منظمة الصحة العالمية أن الصحة تعني جودة الحياة الجسدية والاجتماعية والنفسية وليست الخلو من المرض فيحتمل أن تكون الصحة معتلة علي الرغم من عدم وجود مرض، ومقياس الصحة الحالي هو جودة الحياة فالطب لا يتجه إلي الشفاء ولكن إلي جودة الحياة بمعني أن الطبيب عندما يبدأ العلاج عليه أن يفكر هل ستؤثر العقاقير علي جودة الحياة علي حساب إطالة العمر، إن جودة الحياة ومعناها مستوي الرضا والتمتع من خلال الأحوال الاقتصادية والاجتماعية أي مرادفة لمفهوم الصحة المذكور سابقا! ويكمل د. عكاشة «وتدل البحوث الحديثة علي أن ترابط المال والقوة والسلطة بالسعادة أو الرضا هو سراب غير حقيقي فالمال قد يشتري بعض السعادة ولكن ليس الكثير منها، والزيادة علي مستوي مادي معين لا تعني مستوي أكثر من السعادة فالإنسان قد يزيد ثراؤه مع مرور السنوات ولكن نادرا ما يزيد ذلك من سعادته. وإذا أخذنا معدلات الرضا بين الشعوب مثل غانا والمكسيك والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة تتعجب أن مقياس الرضا واحد علي الرغم من التفاوت البالغ في الدخل، وإن كان المال والثراء لا يستطيع شراء السعادة فما المقياس؟! أثبت مركز «بيو» للبحوث في مسح وبائي علي «44 دولة» أن الحياة العائلية هي أكبر مصدر للرضا وأن المتزوجين والمتزوجات يعيشون ثلاث سنوات أكثر من العُزاب ويتمتعون أكثر من الناحية النفسية والجسدية ويعرف رجال الاقتصاد مفهوم «رأس المال الاجتماعي» وهو التآلف والتكاتف الأسري والديني وفي مجال العمل والجيرة وأن رأس المال الاجتماعي يتواكب مع جودة الحياة تماما كما تتواكب درجة الانجاز والرضا في العمل بحسن الحال والاحساس بالأمل والسعادة بغض النظر عن العائد المادي. باختصار شديد يؤكد لك د.عكاشة أن «أكبر استثمار لسعادتنا هو المدة التي نقضيها مع أولادنا، وللأسف أن الظروف الاقتصادية الحالية في مصر جعلت غياب الوالدين سببا في التأثير علي جودة الحياة». وكلام د. عكاشة ليس مجرد حروف فوق روشتة ، إنها بالفعل روشتة مهمة وباقي مفرداتها البديعة والمؤكدة المفعول تستحق سطورا أخري!