دخل الأمريكيون إلي العراق من دون خطة واضحة المعالم أقله علي الصعيد السياسي اعتقدوا أن العراقيين سيتحولون إلي شعب مسالم ويقيمون نظامهم الديمقراطي بمجرد التخلص من «نظام المقابر الجماعية» الذي كان يرمز إليه صدام حسين فهل يخرجون من العراق في عهد باراك أوباما بطريقة أفضل من تلك التي دخلوا بها أم يتسببون بكارثة أكبر من تلك التي تشهدها المنطقة حاليا في ضوء المغامرة التي أقدم عليها جورج بوش الابن؟ ما هو لافت في المرحلة الراهنة أن استمرار موجة العنف في العراق والعجز عن تشكيل حكومة جديدة علي الرغم من مرور ما يزيد علي ثلاثة أشهر ونصف الشهر علي الانتخابات يشير إلي أن وجود مخاطر جدية علي وحدة البلد في المستقبل القريب، ما علي المحكم يتجاوز تقسيم العراق. الخطر الذي يتحدث عنه مقيمون في بغداد غادروها حديثا يتعلق بعدم وجود من هو قادر علي الحؤول دون نشوب حروب أهلية بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من البلد السنة المقبلة، نعم الخوف هو من حروب أهلية وليس من حرب أهلية نظرا إلي أن الانقسامات بين العراقيين باتت كبيرة وعميقة ولم يعد هناك قاسم مشترك يوحد بينهم حتي بين أبناء المذهب الواحد أو القومية والواحدة أو المنطقة الواحدة، هناك مواجهات حادة بين الشيعة أنفسهم وهناك تناحر بين السنة العرب كما الحال في محافظة الأنبار مثلا حيث الوضع مثير للقلق. ما تعرض له المصرف المركزي أخيرا لم يكن حدثا عابرا، يعكس الهجوم الأخير الذي استهدف المصرف المركزي في بغداد فشلا علي كل المستويات في إعادة بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية الدليل علي ذلك أن عشرات المسلحين هاجموا المصرف المركزي واشتبكوا مع العناصر التي تتولي حمايته، استمرت المعركة ساعات عدة واختلط الحابل بالنابل علي الرغم من أن المصرف يقع في منطقة خاضعة لكل أنواع الحمايات، من أين جاء هؤلاء المسلحون؟ كيف دخلوا المنطقة الآمنة في بغداد؟ من سهل عملية اقتحامهم للمصرف المركزي؟ هل صحيح أنهم من «القاعدة»؟ لا وجود لإجابات عن هذه الأسئلة علي الرغم من مرور وقت كاف لإجراء تحقيق في ملابسات الهجوم الذي يكشف مدي التدهور الأمني في بلد كان إلي ما قبل بضع سنوات مثلا يحتذي به في مجال السيطرة علي الوضع الداخلي، هذا لا يعني من دون أدني شك الترحم علي النظام السابق لكن ما لا مفر من الاعتراف به في الوقت ذاته أن الذين حلوا مكان صدام حسين ونظامه البعثي لم يتمكنوا من إقامة نظام أفضل علي أسس ديمقراطية كل ما في الأمر أن الذين في السلطة حاليا يقلدون صدام بطريقة أو بأخري رافضين تسليم الموقع السياسي إلي الفائز في الانتخابات وذلك استنادا إلي ما هو معمول به في الدول التي فيها تداول سلمي للسلطة.. أو حد أدني من التقاليد الديمقراطية واحترام للدستور المعمول به. لا يعود الخوف علي العراق إلي التدهور الأمني والعجز عن تشكيل حكومة فقط وقد عبر عن التضايق الأمريكي من هذا العجز اضطرار جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية إلي المجيء إلي بغداد في محاولة لتدوير الزوايا وإيجاد مخرج من الأزمة السياسية التي يعاني منها البلد، الخوف الكبير من السياسة الأمريكية التي باتت تعتبر الانسحاب العسكري من العراق هدفا في حد ذاته، يخشي أن يرتكب باراك أوباما خطأ في مستوي الخطأ الذي ارتكبه جورج بوش الابن لدي احتلاله العراق أو أكبر منه، الآن يعتقد أوباما أن في الإمكان احتواء الوضع العراقي وأن المطلوب قبل أي شيء آخر احترام مواعيد الانسحاب الأمريكي منه والتركيز في المقابل علي أفغانستان. ما يفترض أن يكون راسخا في ذهن أي مسئول أمريكي أن الوجود العسكري الأمريكي هو الذي يحول دون الحروب الأهلية في العرا،ق إذا استثنينا المنطقة الكردية لا يمكن الحديث عن رقعة آمنة في العراق، في حال انسحب الأمريكيون معتقدين أن في استطاعتهم الخروج بهذه السهولة من المأزق العراقي سيواجهون وضعا لا يقل خطورة عن افغانستان وباكستان، بكلام أوضح إن الانسحاب من العراق علي مراحل مع التركيز علي احترام المواعيد المعلنة هو الطريق الأقصر إلي كارثة أكبر من تلك التي تسبب بها الاحتلال الأمريكي للبلد وإقامة نظام مبني علي المحاصصة بين الطوائف والمذاهب والقوميات، سيرتكب الأمريكيون عندئذ خطأ جسيماً في ضوء الوضع السائد بالبلد، هناك حاجة إلي أن يأخذ الأمريكي وقته وأن يتحمل مسئولية ما قام به في العراق لا أكثر ولا أقل بعيداً عن الهموم الداخلية لإدارة أوباما. هذه ليست دعوة إلي بقاء الجيش الأمريكي، الاحتلال بغيض، كل احتلال بغيض، ولكن ليس مسموحا أن يرتكب الأمريكيون ما ارتكبوه في العراق بابتداء من العام 2003 ثم يعالجون المأساة بمأساة أكبر عن طريق الانسحاب العشوائي بحجة احترام الرئيس أوباما وعوده للأمريكيين، العراق بكل بساطة لا يتحمل مثل هذا الانسحاب الذي سيفتح الأبواب أمام كل ما من شأنه تشرذمه وتحوله إلي صومال آخر مع فارق أن في الأراضي العراقية ثاني أكبر احتياط نفطي في العالم إضافة إلي أن الموقع الجغرافي للعراق مهم إلي درجة أن كل النظام الإقليمي سيصبح مهددا، ما الذي ستفعله إدارة أوباما لتفادي الكارثة؟ أم أن احترام المواعيد أهم من مستقبل العراق والمنطقة؟