هل تقرأ الحكومات العربية محاضر استجواب الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر، داخل أروقة الكونجرس؟ إنه تحقيق فتحه الديمقراطيون المعارضون حول هدر مليارات الدولارات الأمريكية في الحرب على العراق، وفي مرحلة ما بعد الحرب. ومن الناحية الإجرائية يستحيل تجاهل البعد القانوني لهذا التحقيق، وما له من علاقة بالبعد الديمقراطي الداخلي في الولاياتالمتحدة. نقول “الداخلي” بعدما صارت السياسة الخارجية الأمريكية في الدرك الأسفل. أما بلاد العرب فلا تزال في حالة متأخرة على هذا الصعيد. ما يهم في هذا الاستجواب معرفة مسلك الاحتلال بعد سقوط بغداد. ثم مسؤولية هذا الاحتلال، وطبيعة المسؤولية وما يترتب عليها. مع التنبيه الضروري الى عدم الخلط بين جرائم النظام العراقي السابق وجرائم الاحتلال، هذه لا تلغي تلك.
وحده الشعب العراقي صاحب الكلمة الفصل ولو بعد حين. نقول “الشعب العراقي”، لا الملل، ولا النحل، ولا البطون والأفخاذ.
مَنْ سرق ويسرق أموال العراق؟
المعارضة الديمقراطية الأمريكية في مجلس النواب سألت بوساطة رئيس لجنة إصلاح الحكومة هنري واكسمان عن مصير أكثر من أربعة مليارات دولار أمريكي أرسلت من واشنطن الى بغداد في صناديق ضخمة على متن طائرات عسكرية قبل وقت قصير من تسليم الولاياتالمتحدة السلطة للعراقيين. وقال واكسمان: “هل يعقل أن يرسل أناس برجاحة العقل 363 طناً من النقود الى منطقة حرب؟ هذا بالضبط ما فعلته حكومتنا”.
ويسأل الديمقراطيون في الكونجرس عن أسباب نقص المراقبة على أموال عراقية أي أموال الشعب العراقي تقدر بحوالي 12 مليار دولار، وزعها بول بريمر (الحاكم المدني الأمريكي) وسلطة الائتلاف المؤقتة؟ وهذا ما أسهم بشكل أو بآخر في تمكين المسلحين من وضع أيديهم على الأموال، عن طريق وضع أسماء مزورة في قوائم رواتب موظفي الحكومة، كما أفصح الديمقراطيون داخل الكونجرس.
الى ذلك، يعترف المفتش العام المكلف بإعادة إعمار العراق ستيوارت باون في تقريره المرفوع في يناير/ كانون الثاني 2005 أن 8،8 مليار دولار لم يُعرف مصيرها بعد تسليمها للوزارات العراقية!
هذا على صعيد الفساد المالي. أما عن مصير الجيش العراقي، ودافع حلّه، فإن الاحتلال الأمريكي لن ينجو من الاتهام. يعترف بريمر بأنه لم يكن يجدر به التأخر شهراً لدفع رواتب الضباط الذين تم تسريحهم، والذين احتجوا بشدة آنذاك. بيد أنه لم يفصح عن أسباب تسريحهم.
إذا كانت خطة “اجتثاث البعث” هي التي راودت ذهن بريمر، والفريق العراقي العامل معه، فإن مسؤولية تردّي الأمن وتفكك العراق تقع على عاتق الاحتلال. إن سلطة الاحتلال هي المسؤولة عن مصير البلد المحتل، وقد أشار مجلس الأمن الى وضع العراق من الناحية القانونية بأنه بلد تحت الاحتلال. يقول بريمر في هذا المضمار: “كان من المفترض أساساً ألا تتناول سياسة اجتثاث البعث سوى واحد في المائة فقط من أعضاء الحزب الحاكم في عهد صدام. وقد أخطأت إذ عهدت بالعملية الى مسؤولين عراقيين وسعوا نطاقها الى حد بعيد”!
هل نستنتج أن سياسة الاحتلال تقاطعت مع سياسة السلطة العراقية المؤقتة في توسيع دائرة الفساد، وسرقة أموال الشعب العراقي وتهديد أمنه الوطني؟ نعم، هذه هي الحقيقة التي أخذت تتكشف تحت ضغوط الديمقراطيين داخل الكونجرس، على أن تفاصيل الحقيقة الكاملة لم تظهر بعد.
نستطيع القول إن قرار اجتثاث البعث طُبق على موظفي الحكومة في جميع الدوائر، بما في ذلك موظفو المدارس الرسمية، ما أدى الى فراغ إداري كبير، وتراجع تأدية الخدمات للمواطنين، ناهيك عن اتساع موجة الكراهية، وتهديد أمن الناس في عيشهم، وهو ما يُعرف بالأمن الناعم. لقد تراجعت الخدمات الاجتماعية من كهرباء وصحة ومياه شرب وتعليم وغيرها، والسؤال المطروح هو: كيف تُصرف مليارات الدولارات على مشاريع الكهرباء في العراق، وتبقى الطاقة الإنتاجية أقل مما كانت عليه قبل الاحتلال، على الرغم من معاناة الحصار الاقتصادي الذي استمر ثلاث عشرة سنة؟ هذا على سبيل المثال لا الحصر ويعيد الى الأذهان الأموال الطائلة التي أنفقت في لبنان على مشاريع إنتاج الكهرباء في العقد الماضي من دون أن تتمكن الحكومة اللبنانية من حل مشكلة توفير هذه الخدمة للناس وللمؤسسات.
الى ذلك، صدرت تقارير عراقية وعربية ودولية عن سياسة التمييز الطائفي والعرقي. فسلطات الاحتلال بدأت بسياسة دعم الشيعة ضد السنة، ثم تحولت الى سياسة دعم السنة ضد الشيعة. وعلى مستوى آخر، ساندت المطالب الكردية في كركوك ثم تراجعت عن هذه المساندة في مرحلة لاحقة.. وهكذا دواليك، تتوالى فصول سياسة إنهاك العراق، وتبديد ثرواته، وتهجير شعبه، وتهديد أمنه الى أبعد الحدود. ولا نغالي إذا قلنا إن العراق بلد منكوب.
لا أحد من الأمريكيين في إدارة جورج بوش يتحدث عن شعب العراق، وعن حقوقه الوطنية. إنها إدارة احتلال، تتحدث عن المحاصصة الطائفية على الطريقة اللبنانية البائسة أو عن المحاصصة العرقية بين عرب وأكراد وتركمان وآشوريين.. فمن هو المسؤول الأول إذاً عن خراب العراق؟
يجيب بريمر داخل الكونجرس بأن نظام صدام حسين هو المسؤول عن تدهور الأوضاع الى هذا المستوى، وهو الذي قهر العراقيين وحولهم الى مجموعات متخاصمة. ونقول إن نظام صدام مسؤول، أو هو مشارك في مسؤولية استقدام الاحتلال الأمريكي الى الخليج منذ غزو الكويت في صيف العام 1990. بيد أن هذه المسؤولية لا تعفي سلطة الاحتلال من مسؤولية تدمير العراق بعد احتلال بغداد في العام 2003. ولا تُسقط عن سلطة الاحتلال، ومن يتعاونون معها من العراقيين، مسؤولية انتهاك سيادة العراق وتعريض مصيره للخطر. حتى صار المواطن العراقي يقارن بين عهد صدام، وما حمله من نكبات للعراقيين وجوارهم الإقليمي، وبين مرحلة الاحتلال الأثقل في وطأتها ومخاطرها الجسيمة.
إنها مسؤولية جزائية نظراً للجرائم التي حلّت بالعراق والعراقيين. جريمة ضد الإنسانية ممتدة منذ الحصار الاقتصادي الى اليوم بعد وفاة أكثر من مليون طفل بفعل الحصار، وقتل أكثر من نصف مليون عراقي بعد الاحتلال. ناهيك عن التلوث الذي أصاب أرض العراق ومياهه جراء الاستخدام المفرط للسلاح. وهي في الوقت عينه جريمة إبادة جماعية، نظراً لإصابة مجموعات بشرية عراقية بالتشوه الجيني. وفي هذا المضمار يمكن مراجعة تقارير منظمة العفو الدولية، والمجلس الدولي لحقوق الإنسان في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي في هذه المنظمة الدولية.
وهي جريمة إرهابية لأنها هجّرت ملايين العراقيين، بعد احتلال بغداد. هناك تهجير داخلي، وتهجير الى الخارج. وهناك مئات الآلاف المضطهدين في عهدين: عهد صدام، وعهد الاحتلال.. يا للهول.
وفوق ذلك، ثمة جريمة عدوان حصلت ضد العراق. ولا ننسى ما أعلنه أمين عام الأممالمتحدة السابق كوفي أنان من أن الحرب على العراق، أو حرب الخليج الثالثة، جاءت من خارج الشرعية الدولية.
مَنْ المسؤول: سلطة الاحتلال في الدرجة الأولى. ما طبيعة المسؤولية؟ إنها مسؤولية جزائية يعاقب عليها القانون الدولي، وتحديداً نظام المحكمة الجزائية الدولية التي صارت أمراً واقعاً منذ العام 2004. هذا على رغم رفض الولاياتالمتحدة الانضمام الى نظام هذه المحكمة، بما لا ينسجم مع سمعة هذه الدولة العظمى.
بالطبع فإن دول الجوار الإقليمي تتحمل مسؤوليات معينة في تدمير العراق، وانتهاك سيادته، وتبديد أمنه، بيد أن هذه المسؤوليات على خطورتها أحياناً تندرج في المرتبة الثانية أو اللاحقة. هذا إذا كنا نحتكم لمنطق العدالة والإنصاف، أي لمنطق القانون.
ليل بغداد الطويل هو مشهد من مشاهد مأساوية إنسانية. مأساة ازدواجية المعايير الدولية. ومأساة إدارة أمريكية غارقة تحت وطأة المحافظين الجدد. ومأساة الاستغلال “الإسرائيلي” البشع لاحتلال العراق. ومأساة انهيار النظام الإقليمي العربي.. وما أكثر المآسي في عالمنا؟