لم استقبل فيلم «الديلر» الذي كتبه مدحت العدل وأخرجه أحمد صالح باعتباره من أفلام المخدرات رغم اسم الفيلم الذي يعني فيما أظن سمسار المخدرات ورغم أن الصراع يدور في عالم هذه التجارة السفلي سواء في مصر أو في تركيا أو في أوكرانيا لقد تعاملت معه كفيلم اجتماعي محوره صراع ثلاث عواطف متداخلة في نفوس ثلاث شخصيات هذه العواطف هي الحب والكراهية والخطر وقد تنقل مؤلف الفيلم بطريقة جيدة ومتماسكة فيما بينها ثم أنني فكرت طويلاً بعد انتهاء الفيلم في أن هذا المثلث لا ينقص أفراده لا الطاقة ولا القدرة ولا حتي الجسارة فكيف إذن لم توجه هذه الأمور الإيجابية إلي ما يفيد وينفع وكيف بدأ معهم الصراع في الوطن وانتقل معهم خارجه؟ من هذه الزاوية الاجتماعية النفسية نحن أمام فيلم جيد رغم بعض الملاحظات. أما إذا اعتبرته من أفلام المخدرات فلا مانع عندي وهنا أيضا ستجد عملاً جيداً لأنه لا يكتفي برصد ظروف وأحوال هذه التجارة العابرة للدول والقارات ولكنه يحاول أن يحلل شخصياتهم ودوافعهم واحساسهم بالنبذ و التهميش رغم أنهم دائما في وسط الناس ربما كان يحتمل الفيلم نهاية مختلفة وربما لم يتم اشباع بعض الخطوط الدرامية المتشابكة والكثيرة وربما كان الفيلم يحتمل التوسع في المطاردات ومشاهد الأكش ولكن النتيجة عموماً جيدة مما يجعله عملاً يستحق المشاهدة ويضيف إلي رصيد بطله «أحمد السقا». قبل أن أفسر لك حيثيات الحكم السابق علي «الديلر» لابد من الحديث عن «أحمد السقا» الذي تميزت أعماله بأمرين: الأول هو أنه يبحث عن فيلم وليس عن دور في فيلم بمعني أنه يهتم بكل عناصر الفيلم وبكل الأدوار بل وباتقان التنفيذ ولذلك لم يكن غريباً أن تقدم أفلامه ممثلين في أحسن حالاتهم مثل خالد صالح في تيتو ومصطفي شعبان وأحمد رزق في مافيا وآسر ياسين في الجزيرة وعمرو واكد في إبراهيم الأبيض.. إلخ والأمر الثاني هو إضافته النوعية لأفلام الأكشن، وقد دفع ثمن هذه الإضافة بالاتهام الظالم الساذج بأنه نجح بسبب إجادته للقفز والنط، وبسبب لياقته البدنية، والحقيقة أنه نجح لأنه مشخصاتي يصدق ما يفعله فنصدقه نحن، ولو كان النجاح بالبناء الرياضي واللياقة البدنية لكان «تامر هجرس» و«أحمد تهامي» هما سادة هذا النوع من الأفلام، بل إن التكوين الجسدي «للسقا» - وخاصة قامته الأقصر نسبيا - غير تمامًا من مواصفات بطل الأكشن، وأرجو أن أذكرك فقط بنجوم هذا النوع السابقين أصحاب الطول والعرض من «سراج منير و«بدر لاما» إلي «أحمد رمزي» و«فريد شوقي» و«رشدي أباظة» وصولاً إلي «يوسف منصور» و«الشحات مبروك»، ولا توجد مقارنة في هيكل الجسد بين «السقا» وأي واحد من هؤلاء ومع ذلك فإنه أكثرهم إقناعًا في تلك الأدوار؟! في فيلم «الديلر» بدا كما لو أن «السقا» يتعامل مع فيلمه من الزاوية الأولي التي تحدثت عنها كدراما اجتماعية ونفسية مع أن الفيلم - كما ذكرت - كان يحتمل جدًا أن يكون فيلم «أكشن» رفيع المستوي، ولا أعرف بالضبط هل أثرت المشاكل التي سمعنا عنها والتي جعلت منه (فيلم جملي) استغرق وقتًا طويلاً في التصوير، وتكلف ميزانية لم تكن في الحسبان، هل أثر ذلك علي عدم تصوير مشاهد معينة؟ عموما ما يعنينا أننا شاهدنا بناء متماسكا إلي حد كبير مع بعض الملاحظات ولكن ملامح الشخصيات خاصة في الأدوار الثلاثة الأولي واضحة وأعني بذلك يوسف الشيخ (أحمد السقا)، وغريمه وابن الحارة «علي الحلواني» (خالد النبوي)، ثم محور الصراع المدهشة «مي سليم» في دور «سماح»، السرد بأكمله من وجهة نظر «يوسف» الذي نسمع صوته علي بعض المشاهد، ولكنه في الحقيقة أقرب إلي السرد الموضوعي لأنه يعطي مساحة معتبرة لما يفعله «علي الحلواني» مع زوجته «سماح» عندما ذهب إلي أوكرانيا رسم الملامح الاجتماعية للبيئة الاجتماعية للثلاثة كان أيضًا جيدًا «يوسف» ابن إمام زاوية ولديه شقيقتان تجريان وراء رزقهما، علاقته متوترة بالأب الذي يصرّح دائمًا بأنه أنجب ثلاث بنات وليس ولداً وبنتين، سماح «راقصة» فنون شعبية تعيش مع أمها وزوج الأم «علي» أيضًا علاقته متوترة مع أبيه الذي يقول عن نفسه أنه مترجم مع أنه لا يستطيع نطق اسم شيكسبير صحيحًا، ورغم ذلك فقد فات علي «مدحت العدل» أن يحدثنا عن أساس الصراع كله وهو حكاية غرام مع «يوسف» أولاً ثم خطف «علي» لها واقترانه بها عرفيا وحملها منه، هذه الحكاية نسمع عنها (الحب فالخطف مع أنها أحد محاور الصراع الأساسية)، وكانت تستحق ولو عدة مشاهد «فلاش باك» سريعة. علي هامش الصراع الثلاثي، لم يغفل «مدحت العدل» تقديم الشخصيات المساعدة بدرجة كافية في معظم الأحيان، لرسم اللوحة الكاملة، هناك مثلا والد «يوسف» (صبري عبدالمنعم) الذي لا يظهر حبه لابنه إلا بعد أن ترك البلد، وهناك «الريس حسن» (سامي العدل) الذي يعتبر يوسف مثل ابنه، ويساهم في تسفيره إلي الخارج، وفي تركيا يظهر (فرحات الكردي) الذي يلعبه «نضال الشافعي»، وهو تاجر ملابس ينتقل ب«يوسف» إلي تجارة المخدرات، وهكذا ينتقل الصراع بين الثلاثة إلي الخارج، ولكن «العدل» يحاول أن يمنح ميزة نسبية ل«يوسف» رغم أنه و«علي» يتاجران في السموم البيضاء والحقيقة أن كون «يوسف» غير أناني ومازال يحافظ علي حبه ل«سماح» كما أنه أكثر جرأة وصاحب صاحبه لا يغير كثيرًا من أن الاثنين ومعهما «سماح» في مستنقع واحد سواء داخل الوطن أو خارجه، «سماح» تحديدًا سيجعل الفيلم بسقوطها مروعًا عندما تدمن المخدرات، وعندما تتحول إلي راقصة تتعري في ملهي ليلي بحثًا عن ابنها الذي اختطفه والده «علي» ومرة أخري نسمع عن هذا الحدث دون أن نراه رغم أهميته، ولكن بصفة عامة ورغم تلك اللمسة الميلودرامية التي تذكرك بأفلام حسن الإمام فإن «مدحت العدل» نجح في الاقناع بأن الثلاثة يمكن أن يجتمعوا من جديد لأنهم في نفس اللعبة «الحب والكراهية والخطر» حتي لو كان ما بينهم آلاف الكيلومترات. ينتصر الفيلم في نهايته ل«يوسف»، ويتخلص من «علي» و«سماح»، لم أقتنع أبداً بأن يوسف أفضل من الاثنين، ولا أظن أن تربيته لابنه من «سماح» ولابنها من «علي» يمكن أن يعني شيئًا جيدًا، فمازال في رأيي تاجر سموم، وليس من المقنع أبدًا أن يسمح له بالاعتزال وكأنه لاعب كرة مثلاً، ولكن دلالة هذه النهاية - غير المريحة علي الاطلاق - في نهاية لعبة الحب والكره والخطر، أو هكذا أراد «مدحت العدل»! بالاضافة إلي الملاحظات السابقة ظلت هناك خطوط غامضة كالأزمة والثأر الذي نسمع عنه بين تاجر المخدرات التركي «سلامة شاهين» وبين «علي الحلواني»، ولكن بصفة عامة كانت الايقاع متدفقا «مونتاج حسن التوني» باستثناء بعض مشاهد «تركيا»، الحقيقة أن المهمة لم تكن سهلة لأن الانتقالات بين أوكرانيا وتركيا كانت كثيرة لدرجة أنه اختلط علي الأمر أحيانًا، ولم ينقذني من هذه الحيرة إلا موسيقي «مودي الإمام» التي كانت تتغير إلي لون موسيقي البلد الذي نشاهد الأحداث فيه، وهو تصرف جيد رغم أنه مباشر، كما نجحت صورة سامح سليم في التعبير عن عالم تجارة المخدرات الذي تم في النور وفي الظلام، ونجح «سامح» مع المخرج في نقل الاحساس القوي بالمكان باختيار أماكن التصوير سواء في مصر أو تركيا أو أوكرانيا، كان لكل مكان طابعه وروحه وخصوصيته رغم تشابه معالم الشوارع أحيانًا بين تركيا وأوكرانيا. ولكن نجاح «أحمد صالح» كمخرج في تجربته الثانية بعد «حرب أطاليا» لم يكن فقط في ضبط ايقاع الصراع بين عدة دول وعلي مساحة زمنية كبيرة، ولكن أيضًا في ادارته لممثلين: «أحمد السقا» الذي منح شخصية «يوسف» بساطة وتلقائية، الحقيقة أن شخصية «يوسف الشيخ» من أقل الشخصيات التي لعبها «أحمد السقا» عنفًا، ومن أقلها استعراضًا لقوتها الذكورية، وقد كان أداؤه لها مقنعًا ومؤثرًا في مشاهده مع والده، وكالمعتاد هناك مساحة للاكتشاف في أفلام «أحمد السقا»، ويشغل هذه المساحة هنا المشخصاتي الرائع «خالد النبوي» الذي امتزج بالشخصية وعبر عن انتهازيتها وجشعها ثم موقفها الأخير المفاجئ في لحظة المواجهة مع «يوسف». «النبوي» في مرحلة نضج حقيقية بدأت قبل «الديلر» واتمني أن تتواصل في أفلام قادمة. أما «مي سليم» فهي مفاجأة الفيلم في دور شديد الصعوبة ولكنها لعبته باحتراف رغم أنها تجربتها الأولي كما قرأت. وبيدو أننا أمام ممثلة جيدة جديدة قادمة من عالم الغناء مثل «سيمون» و«سمية الخشاب» و«مي كساب»، ولابد من الاشارة إلي اجتهاد «نضال الشافعي» الذي يقدم دومًا أدوارًا قصيرة ومميزة في الأفلام كما شاهدنا في العام الماضي في «إبراهيم الأبيض» وفي «بدل فاقد» الملاحظة الوحيدة أنه بالغ قليلا في الحركة في بعض المشاهد، ولا ننسي الدور القصير المؤثر «صبري عبدالمنعم» في شخصية الأب. «الديلر» فيلم تجاري جيد الصنع. ونحن مع هذه النوعية ونساندها إذا لمحنا أمارات الاتقان الفني، وفي ظني أن تلك الأفلام تجعل تعامل المتفرج أفضل مع الأفلام المختلفة عن السائد لأنها تقدم له نموذجًا لسينما متقنة في معظم عناصرها. -