لا يزال الحديث موصولاً في تبسيط وترشيد الخطاب الديني، ومقال اليوم يدور في فلك ما قبله من تكليف الجوارح بما تطيق بل بأقل مما تطيق وكيف لا والله يقول "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" ولكن الملاحظ في هذه التكليفات رغم بساطتها أن التكليف القلبي أهم وأكبر، فأداء التكليف الشرعي واجب ميسور تطيقه النفس ولكن موقف القلب ومدي إخلاصه لله تكليف أشد.. فقد روي أنس بن مالك رضي الله عنه- «كنا جلوسا مع رسول الله (ص) فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار... فلما كان الغد قال النبي (ص) مثل ذلك فطلع الرجل مثل المرة الأولي، فلما كان اليوم الثالث قال النبي (ص) مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل مثل حاله الأولي فلما قام النبي (ص) تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص ... فقال... أن تؤويني إليك حتي تمضي، قال نعم. قال أنس وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا... حتي يقوم لصلاة الفجر... فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله إني... سمعت رسول الله (ص) يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بك فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله (ص) فقال ما هو إلا ما رأيت ... غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا (وفي رواية غلا) ولا أحسد أحدا علي خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق» فالرجل الذي في الحديث لا يعمل أعمالا تعبدية خارقة أو زائدة بل رجل وسطي بسيط يدور في فلك أداء الفرائض والابتعاد عن المعاصي أو علي النحو الذي ذكر، إن سبب دخوله الجنة وتحديد النبي - صلي الله عليه وسلم - له بعينه وتأكيد ذلك ثلاث مرات أمر قد يبدو للناظر أنه بسيط هين أي أنها مجرد نبوءة وحي اختص بها هذا الرجل، لكن الأمر لدي أصحاب البصيرة غير ذلك ما دفع صحابياً آخر أن يترخص في تصنع حيلة للنظر من حال الرجل عسي أن يجد لديه ما يعينه أن يسلكه كذلك فيكون من أهل الجنة، فوجد أمراً عادياً إلا أنه توقف عند قول الرجل "غير أني لا أجد لأحد من المسلمين غشاً أو غلاً ولا أحسد أحداً علي خير أعطاه الله إياه" فهي إذن التي أوصلته للجنة، قلب سليم من الحسد والغل والغش لعباد الله، تري لو التزم أصحاب الأقلام وأصحاب الإعلام بهذه الخصلة في تعاملهم مع الغير هل سيكون حالنا علي نحو ما هو قائم؟ ولو ركز أصحاب الخطاب الديني علي هذه المعاني هل سيتسابق الناس لتقديم مستندات مزورة لأخذ دعم غيرهم أو شقق غيرهم أو وظائف غيرهم ممن هم أحوج وأفقر؟ إن البعض يتوهم حينما يعتقد أنه بالشرع وحده تستقيم الأمور أو بوضع نظم ولوائح، بل لا قيمة عملية لأي تشريع شرعي أو وضعي لا يتعارض مع الشرع ما لم يكن هناك مجتمع تسوده روح إيمانية إيجابية وشفافية مع النفس في التعامل مع الغير، أرأيت دعم المواد الغذائية للفقراء من خلال بطاقات التموين، حيث يتحايل الكثير من القادرين نسبياً علي الشروط والأوراق للحصول علي البطاقة أو الحصول علي شقة مدعومة فيزاحمون الفقراء طعامهم وسكناهم وما ذاك إلا غش وغل وحسد، تُري كيف سيكون الحال لو التزم كل مواطن وكل موظف بالشروط والضوابط التي وضعتها الحكومة لدعم محدودي الدخل هل سيذهب الدعم لغير المستحقين حينئذ؟ أم سيذهب في غالبه لأهله، وتوفر الحكومة الباقي لمشاريع أخري؟ إننا في حاجة لخطاب ديني يرسخ خصلة الإيثار والعطاء والشعور بالغير، في حاجة لخصال ترسيخ الصدق في القول والصدق في العمل ، في حاجة لترسيخ خصلة الدعاء والتبريك لكل صاحب نعمة لا الدعاء عليه بزوال هذه النعمة غلاً وحسداً، فالرجل لا يجد في قلبه غلاً ولا حسداً علي أحد من الناس، أي يبيت سليم القلب تجاه غيره فسكن قلبه وارتقت نفسه فكان جديراً بأن يكون من أهل الجنة، فأين المشمِّرون عن سواعد الجد لمجاهدة قلوبهم من الحسد والغل والحقد؟