أحد ملامح التحول في المجتمع المصري هو اتساع نطاق ما يعرف بالمجال العام، ويتمثل ذلك في مناخ الحرية في النقاش، والتطرق إلي موضوعات ظلت لسنوات خطا أحمر لا يجب عبوره، والتعرض لشخوص كانت في السابق في عداد «التابوهات». بالفعل المجال العام اتسع، وتنامي، ولكن هذا من حيث الشكل أما المضمون فلا يزال ضعيفا، هشا. وتعود هذه المشكلة إلي حالة التراجع الثقافي العام في المجتمع، وهو ما قد يجعل أي اتساع في الحركة في المجال العام رصيدا إضافيا للقوي الراغبة في شد المجتمع إلي الخلف. ومن يتأمل النقاشات في الحياة العامة سواء في الصحف أو المنتديات قد يصل إلي النتيجة ذاتها.. وهنا يجب أن نفرق بين نوعين من الثقافة: ثقافة مستقرة، وأخري في حالة تحول. في المجتمعات التي تشهد ثقافة مستقرة، يتأثر سلوك الأفراد بالقيم السائدة، وتتيح الموارد الثقافية القائمة (مؤسسات ثقافية- فنون- سينما- مسرح- مطبوعات- متاحف.....الخ) فضاء رحب للأفراد يمكنهم من اشتقاق عادات، وتعلم مهارات، وتذوق ابداعات، وتبني أنماط سلوك ملائمة. وفي المجتمعات التي تشهد ثقافة غير مستقرة تتصارع الايديولوجيات بشكل فج، وواضح، وصارخ، وتدخل المنتجات الثقافية ما يعرف بمنطقة الصيد ، حيث تميل كل ايديولوجية إلي تسخير الأدوات الثقافية المتاحة لخدمة أغراضها الذاتية، وتتحول الثقافة من فضاء متنوع لتطوير الوعي الجماهيري، إلي أدوات للتعبئة الايديولوجية للاستقطاب، وتزييف وعي الأفراد. وإذا أردنا أن نٌحدث تغييرا ثقافيا- في ظل استشراء ثقافة غير مستقرة- لابد من تطوير واستحداث مؤسسات ثقافية متطورة شكلا وموضوعا، حتي يصبح في إمكانها إحداث تغيير ثقافي تراكمي علي مدار الزمن. وقد لا نحتاج إلي حديث مطول عن تشخيص الثقافة المصرية، وكيف أنها باتت تنتمي إلي النمط الثاني، أي الثقافة غير المستقرة. فمنذ عدة عقود تتنازع عملية الانتاج الثقافي اتجاهين رئيسيين في المجتمع، أحدهما سلفي، يكره الثقافة، ويجابهها، ويسعي إلي تحويلها إلي أدوات لخدمة مشروعه السياسي- الديني. والاتجاه الثاني يمثل الامتداد الطبيعي للكتابات والأفكار التي سطرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأمتدت علي مدار القرن العشرين، علماء ومفكرون سعوا إلي تأسيس مجتمع حديث في مصر، يقوم علي ثقافة حديثة، بدءا من رفاعة الطهطاوي، مرورا بالشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وأحمد شوقي وطه حسين، وغيرهم كثيرون حملوا مشاعل هذه الثقافة. لم يروا يوما تناقضا بين الموروث والحديث، بل تكاملا يؤدي إلي الحفاظ علي الثقافة المورثة، وفي الوقت نفسه الآخذ بأفكار المدنية والتحديث في إطار من الحيوية الثقافية، وديناميكية الحوار والجدل. وبعد مرور عقود علي هذه الأفكار الناهضة، نجد اليوم اتجاها سلفيا يضرب جذور التحديث الثقافي، ويكتسب أرضا جديدة يوما بعد يوم، ويسبب حالة من الاعتصار للثقافة المصرية الراهنة. اتجاه يريد أن يغلق العقل المصري، ويجهض منجزات التحديث في المجتمع التي تحققت علي مدار عقود من خلال إعمال المصادرة، وتسفيه الثقافة، ومحاربتها، والسعي إلي استهداف القائمين علي الانتاج الثقافي. من هنا فإن الحديث عن اتساع المجال العام في المجتمع المصري، هو صحيح شكلا، ولكن ينبغي التعامل معه بحذر، فعن أي مجال عام نتحدث؟ هل مجال عام يشجع التفكير النقدي، والعمل المستقل، والحريات أم مجال عام مغلق، مصمت، تمطتيه تيارات متراجعة ثقافيا، مما يجعل المجتمع في حالة تراجع أكثر منه في حالة تقدم؟