لما كان شهر رمضان يوافق شهور الدراسة.. وكنا نقوم بتدريس مادة المحادثة باللغة الإنجليزية (Conversation ) كان من الصعب بمكان أن نشجع الطلاب علي التحدث في موضوع ما باللغة الانجليزية في صباح رمضان الصائم.. وكان كل منا يحاول أن يبدع بفكرة جديدة لدفع الطلاب علي الحديث.. وكان منقذي حينئذ هو (أسامة أنور عكاشة) رحمه الله.. خسارة كبيرة.. كنت أطلب من مجموعة طلابي اختيار واحد من عشرات المسلسلات الرمضانية لنقوم جميعا بمتابعته ومناقشته في محاضرة المحادثة.. ومهما كانت اختياراتهم كنت أتمسك بالانحياز للذين اختاروا مسلسل أسامة أنور عكاشة.. كنت أفرض متابعته كواجب دراسي نقدي من شدة إعجابي بقصص وشخصيات عكاشة من ناحية، ولمعرفتي الأكيدة بغني قصته وإتاحتها لمساحة واسعة من النقد للطلاب حتي قبل أن اقرأ النص أو أشاهد المسلسل من ناحية أخري.. كانت شخصياته هي أهم ما ميز أعماله فقد قدم (أبلة حكمت)، و(أحلام في البوابة) و(أميرة في عابدين) و(امرأة من زمن الحب) كسيدات متميزات بطلات تدور حولهن الأحداث ويغيرن المجتمع الذي يعشن فيه كبر أم صغر.. هذا بالإضافة إلي شخصيات لا تحصي من نماذج مصرية، رجالا ونساء، معاصرين وقدماء.. كنا نحلل شخصيات عكاشة وكأننا نتعامل مع شخصيات شكسبير.. وكنا نبحث عن صفات النبل والتميز ثم نحاول تحديد ال(flaw ) أو الخلل الرئيسي في الشخصية الذي تكمن فيه المشكلة.. وغالبا ما نتعاطف مع الشخصيات العكاشية كما الشكسبيرية ونجد فيها أنفسنا أو شيئا منا.. كما تميز عكاشة بانتقاء المكان والزمان.. فكان مثل ديكنز: يأخذك معه إلي المنيا، أو الاسكندرية بضواحيها المختلفة، أو الحلمية، أو عابدين.. وينتقل بك من زمن الملكية إلي زمن الثورة إلي زمن الحرب إلي زمن الحب.. وفي مكان عكاشة وزمانه يتجسد واقع بكل ألوانه وأشكاله.. فتجلس علي الأريكة لتشاهد المسلسل فتجد نفسك قد انتقلت من حياة القصور الفارهة إلي المقهي.. وتكاد تقسم أنك تشم رائحة القهوة المختلطة بالزنجبيل هنا والقرفة هناك، وتداعب أنفك رائحة دخان الشيشة وأنت تسمع ضجيج الزبائن وأصوات الحارة والسيدات اللواتي يتحدثن عبر الشرفات هنا وهناك.. وإذا نقلك للبحر تشعر بالبرد وتغطي ذراعيك بيديك من أثر رطوبة الإسكندرية، ويطير شعرك من هواء البحر المشبع برائحته المميزة.. أما موضوعات عكاشة الدرامية فقد تنوعت بين موضوعات التاريخ من وجهة نظره الجريئة المتميزة التي تفرض علينا احترامها حتي ولو اختلفنا مع توجهاتها، ورحلات البحث عن الهوية الشخصية بما فيها من اكتشاف الذات والانفتاح علي المجتمع واصلاح النفس والمجتمع معا، وموضوعات مصرية: شعبية أو مرتبطة بالتقاليد والأعراف أو وطنية.. ولكن نهاياته كانت دائما مفاجئة أو كما ندعوها في لغتنا النقدية الإنجليزية التي يفهمها عكاشة جيدا (unpredictable..) كنت أشعر بالحزن في نهاية رمضان لا لأنني ينبغي أن أفكر من جديد فيما يستحث الطلاب علي الحديث فحسب، ولكن لأن مسلسل عكاشة سينتهي.. لم أكن أفضل رؤية الحلقتين الأخيرتين من المسلسل.. فهما غالبا يحملان نهاية لا تتفق وعظمة الدراما، كما أنني أفضل أن تستمر أحداث حياة الشخصيات التي أحببتها دون توقف، وأيضا لأنني سأضطر لنقد النهاية والاختلاف معها أمام الطلاب وهو ما لا أحب أن أفعله!!