تجري الحياة علي أعنتها بحلوها وشرها، والانتخابات السياسية واحد مما يجري من هذه الشرور، رغم أنها في الأصل وسيلة حلوة من محاسن طريق الديمقراطية وتحقيق الخير للناس وللمجتمع، ولكنها انقلبت - علي مر التاريخ - لتصبح واحدة من مساوئ الممارسة المجتمعية بفعل فاعل أو يزيد، رغم كل ما يجري عليها من تحسينات علي مر الزمن، حتي أن واحدًا من الحكماء قال قديمًا «إن سنة الاجتماع وطبائع الشعوب قد جرت علي أن الأنظمة مهما تبلغ الكمال ليست في الواقع إلا حسابًا وتقديرًا مرماه ونتيجته «أخف الضررين»!! وكثير ممن كتبوا في أزمة الأنظمة الانتخابية حتي من انحازوا للانتخاب علي درجتين، قالوا لنا إنه - أي هذا النظام الذي استحسنوه - كالمرشح الذي يعطيك ماء أشد نقاء وصفاء دون أن يغير ينبوعه أي أن هذا الينبوع ما يزال عكرًا أو ملوثًا!! كذلك من قالوا بالانتخاب علي درجة واحدة.. وخال من القيود، أو بالتمثيل النسبي وتمثيل المصالح، ما لبثوا أن اعترفوا له بمطبات كثيرة، طالبوا معها بمختلف الطرق الأخري المعقدة، بإدخال التحسينات بعد أن استفاضت الشكوي من أزمة الأنظمة البرلمانية التي تتهم تارة بالعقم والثرثرة وطورًا آخر بالطغيان علي السلطة التنفيذية أو العكس، ثم تتهم دائما بانحطاط مستوي أعضاء المجالس النيابية، بسبب تحول السياسة إلي صناعة يندس فيها من كانت بضاعتهم من الأخلاق والكفاءة مزجاة، ومن لا يبتغون بها إلا طريقًا للجري وراء المنافع، وهو أمر دفع المؤتمرات البرلمانية الدولية ومنذ قديم الزمن محاولة البحث عن أسباب للخروج من أزمة الأنظمة البرلمانية التي لا يجهلها المشاهد للتغييرات التي تمت في كثير من البلاد.. ثورة عليها. ومنذ نحو قرن من الزمان سجلت وزارة «إسماعيل صدقي» في بيان لها صدر في 21 أكتوبر 1930 بشأن التعديلات التي رأت إدخالها علي الدستور وعلي «قانون الانتخاب» ندبت فيها الظروف التي غشت علي جو الحياة النيابية في مصر «وقتئذ». ولتسجل أن قوانين الانتخاب لا يتم تغييرها عادة إلا قبل انتهاء الفصل التشريعي والقرب من إجراء الانتخابات الجديدة، وأن هذا التغيير يتم بغير مناقشة جدية بطريق التشريع العادي، وأنه عند تغيير نظام الانتخاب من المباشر علي درجة واحدة، أخذا بما جرت عليه الانتخابات في أوروبا، كضرورة من ضرورات تطور النظام النيابي، وكان وقتها لم يتصاعد صوت واحد خارج البرلمان من فرد أو جماعة بالمطالبة بالانتخاب المباشر، وأن ذلك لم يكن مقصودا به سد حاجة أو حسن ملاءمة!! وأضاف البيان أنه عندما طبق نظام الانتخاب المباشر بحالة غير طبيعية بسبب الائتلاف بين الأحزاب الذي حال دون أن يكون الانتخاب «معمعة» لقيام الأحزاب بتوزيع الكراسي النيابية بينها، في الوقت الذي شاءت فيه الظروف أن يحظي فريق الأوتوقراطية بأغلبية كراسي مجلس النواب والوزارة الأمر الذي أدي إلي حل البرلمان وأوقف الدستور.. بعدها أسفرت نتيجة الانتخاب عن برلمان لا حول له ولا قوة كل همه أن يكون مطيعًا وكل همه أن يصوغ الثقة عقودًا يقلد بها وزارة يتحكم فيها أفرادًا ومجموعات حتي حرصت الوزارة وقتئذ علي أخذ الناس بالشدة تارة.. واستبقاء أسباب الحكم بالعسف تارة أخري. ثم قال لنا البيان كذلك «أن أخطر داء مدو في البلاد ومرضها الوبيل هو طغيان فئة قليلة اتخذت من الرعب الذي تنشره بين المواطنين والنواب، وأن أخطر ما يعاب علي النظم النيابية احتراف السياسة من عدد غير قليل ليسوا من الطراز الأول، ولا يستطاع تجنيبهم للحاجة إلي أمثالهم في صفوف الأحزاب، لكنه يجب أن يكون إلي جوار هؤلاء من يكون لهم في الحياة السياسية آراء ناجحة ومشاعر ونزعات وطنية، حتي لو كان هؤلاء عازفين عن الانتخابات، واقترح البيان علاجًا لحسن اختيار النائب بقدر الإمكان. والآن رغم أن الدنيا قد تغيرت وجمعنا في الحياة السياسية المصرية في ظل الدستور القائم من حقل التجارب بين أنظمة الانتخاب المختلفة، الفردي مرة والقائمة مرة أخري ثم الجمع بينهما مرة ثالثة، ثم عاد بنا الحال إلي النظام الفردي، مع وجود أربعة وعشرين حزبًا سياسيا بالتمام والكمال، بخلاف ما يقف في الطابور ينتظر الميلاد.. ونحمد الله أن الأحزاب رغم ضعفها وقلة حيلتها، أننا منذ التاريخ القديم وقبل الحرب العالمية الأولي كانت لدينا حياة حزبية منذ عام 1893 الوطني القديم ثم الوطني عام 1908، والاشتراكي المصري عام 1908 . والوفد 1918، وبعد إلغائها عام 1953 . عادت الحياة الحزبية منذ عام 76 ورسميا بالقانون رقم 77/40 رغم ضعفها إلا أننا نحمد الله أنها لم تتعد حالة الضعف إلي حالة الفساد لأن كلها وطنية مخلصة، كذلك فإن حال الانتخابات رغم كل ما جري من تعديلات دستورية وتشريعية عام 2005 و2007، ووجود اللجنة العليا للانتخابات وضرورة توقيع الناخب عند التصويت.. والصناديق الزجاجية والحبر الفسفوري.. ولجنة للمراقبة الإعلامية، فإن واقع الحال عند التجديد النصفي لانتخابات مجلس الشوري قد شهد اقبالا ومنافسة عظيمة، فالمرشحون علي 88 مقعدًا بلغ عددهم بما يجاوز الخمسمائة، أي ينافس علي المقعد الواحد ستة متنافسين رغم اتساع الدائرة وتزايد الشقة، ثم أصبح عددهم بعد التنازلات 456 منهم 90 وطني.. و45 أحد عشر حزبًا معارضًا.. والباقي مستقلون أياً كانت انتماءاتهم وصفاتهم، ومع ذلك فمازالت الشوائب عالقة في الشارع السياسي.. وبما لا يتناسب مع التقدم الحادث في البلاد، ما بين مخالفات الدعاية الانتخابية.. والصراعات.. والسيطرة.. والأحكام القضائية.. والإشكالات.. كل ذلك مازال باقيا رغم ذلك التاريخ الطويل من التجربة سواء في مجال الانتخابات.. أو الأحزاب.. وبعد غد الثلاثاء سوف تكشف لنا النتائج عما قد يوجب علينا البحث والدراسة، في محاولة لتشخيص الداء.. ووضع العلاج!!