يعتقد كثيرون أن نيقولا ميكافيللي بكتابه الأمير (1513م) دعوة لإباحة نقائص الإنسان علي الأرض خاصة أن مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" قد فسر في ضوئها الكثير من الاعمال المسرحية إضافة الي أن قضايا السلطة التي تناولها الكتاب مازالت علي رأس القضايا التي يطرحها المسرح. كما يعتقدون أن هذا المؤلف وصل إلي الخلود مزودا بالتزلف والنذالة والفظاظة عبر كتاب يمجد الشر ويمحو الفضيلة، وهذه إساءة تبعية الفهم. في عصر كانت روما تمر بظروف صعبة وكان هناك رجل علي وشك تولي السلطة فيها وكان بديهيا أنه يحتاج إلي بعض النصائح وكان بديهيا أيضا أن يكتب ميكافيللي هذا الكتاب ليرشده عبر خبراته في سياسة روما لكنه اتهم بالتملق والوصولية وحب السلطة وهي قراءة ضيقة ومحدودة وضحلة. هذا المفكر الداهية الذي كتب المسرح قدم كتابًا نموذجيا لملامح خبرات وتجوال سياسي إيطالي عظيم رصد تاريخ روما وما حولها في حقبة قاحلة عبر قراءة للواقع والماضي معا راسماً ما يكون عليه دور الأمير فهو كالمخرج الذي يتلو علي الأمير أبعاد دوره المهم، وهل هناك في البلاد دور أهم من دور الأمير؟ عرض ميكافيللي صورًا حقيقية من تاريخ ممالك وإمارات وحياة أمراء وأباطرة وسابقين عاشوا حياتهم مليئة بالأحداث فنقل للأمير هذه الأحداث وهذه الخبرة بثراء وحرفية موجزة البلاغة في شكل رسائل (خطابات) متتابعة تحمل في مقدمتها سيدي الأمير وخاتمتها حكمة أو نصيحة، وتتنوع الخطابات بين عناوين مختلفة ومضامين بنسيج بالغ التعقيد، منفصلة فيما بينها متصلة في كلها لتكون في النهاية ملامح لدور الأمير وتتناول هذه الرسائل موضوعات كالعلاقة بالشعب وطريقة تأسيس الجيش والحماية واختيار الوزراء والمستشارين وممارسة السلطة وفكرة الصعود والقدر والعظمة والشجاعة والثقة وعقل ومعرفة الأمير ليختتم برسالته الأخيرة أن إيطاليا أصبحت شعبا يتطلع إلي من يضع حدا لأمراضها وأن يداوي جراحها المتقيحة وأن يبعث فيها الروح بإنقاذها من الفظاظة والبربرية والحمق الأعمي، هذه الرسائل التي تنشد التوعية لا تخلو طوال العمل من تمجيد الشعب والوصية بالحفاظ عليه وتقديره وحمايته فيقول "ينبغي علي الأمير أن يدرس جيدا كل الاحتمالات حتي يحافظ علي شعبه ورعاياه" ويقول أيضا واسمح لي سموكم أن أوضح كيف يكون الأمير محبوبا من شعبه وأن يتجنب كل ما يعرضه للكراهية والاحتقار وألا يغتصب ممتلكات رعاياه ونساءهم حتي يعيش الشعب راضيا قانعا، ثم يبين له أن خير واق من المؤامرات أن يكون محبوباومرضيا عنه من كل شعبه، كما ينصحه في رسالة بألا يحافظ علي دولته بتأمين نفسه بتشييد الحصون والقلاع حول ذاته ليخبره أن قلوب شعبك هي القلعة التي تشيدها وتحميك من الأعداء كما شدد علي الثقة فبدون الثقة لا يكون الأمان أو الطمأنينة للأمير، بل يتعدي ذلك في علاقة الأمير بالشعب بأن عليه أن يكون ميالا إلي ذوي الكفاءة والجدارة، يفضل المتفوقين ويكرم النابغين ويشجع المواهب ويقيم المشاريع التي تفيد بلده حتي يستطيع كل فرد في شعبه تحسين حالته الاجتماعية ويقيم الاحتفالات في المناسبات القومية والأعياد، وأن يختلط بالشعب ويحل مشاكله بكل ود وحب، وأن ينجز أعمالا مجيدة يخلد بها ذكراه، بل ويدفع الأمير إلي أن يكون مخلصا في عمله أمينا علي عرشه محبا لشعبه كما ينصحه بأن يشعر الناس بالهدوء في ظل حكامهم الجدد وعدم إحداث أي تغيير في قوانين البلاد وضرائبها، كما يقول إنه يجب علي كل أمير يود أن يستمر في ولايته أن يحافظ علي حب شعبه له لذا "أيها الأمير كن صديقا لهم تكن سيدا عليهم" هذه بعض التعاليم الميكافيللية، التي تبدو كمنولوج مسرحي لبروفة تنصيب الأمير للتعرف علي منفستو الحكم، ألا تري معي أنها تمتلئ بالنزاهة فلماذا لم تنتشر تلك الفضائل وبقي ما نعرفه وما لخص الرجل فيه أن "الغاية تبرر الوسيلة" هذه الجملة المنتزعة من جذورها وواقعيتها لا يبرر انتشارها إلا شهوة لعقول شرهة ومغلقة تبحث عمن يحمّلونه أخطاءهم أهملوا جملة تنقضها وهي "أنه وصل الي السلطة بالنذالة.. لكنه لن يصل أبدا الي الخلود". ذهب ميكافيللي وبقي وصف شخص بالميكافيللي "سُبة" لكن لا شك أنه لفق للرجل ما لفق في حين أنه رفع بالفضيلة الشعب إلي مرتبة العرش وكأنني أراه يصرخ سيدي الأمير أنا لست ميكافيلليا.