ليس للمقال أي علاقة بنشاط محافظ الإسكندرية اللواء عادل لبيب، ولا بالبنية الأساسية أو التحتية، ولا بقرارات البناء أو وقف التعلية، ولا بالأرصفة أو الانفاق أو الوظائف أو رغيف الخبز، ولا بالحضّانة أو مشاكل عبور الكورنيش أو البحر كما يسميه أهالي الإسكندرية. لا أكتب هذا الاسبوع لأنقد أو أشيد أو أسخر من جهة أو شخص، كتبت مجرد انطباعات شخصية عن المدينة التي ستبقي جميلة رغم سنوات الأسي والذكريات الكئيبة التي خلفها بعض الذين أساءوا إليها. لكن أحباءها وعشاقها، وأنا واحد منهم، كانوا حريصين علي أن ينفضوا عن أنفسهم ماضياً ولي ولن يعود وأن يبقوا علي الود مع من يستحقون الود ويرمون خلف ظهورهم ما لا يستحق أن يبقي حتي في الخيال. مباشرة ودون إطالة: عدت إلي الإسكندرية زائراً بعد فترة انقطاع والتقيت جمهوراً من شبابها الأحد الماضي، فعادوا بي أو أعادوا إلي الذكريات المبهجة لسنوات البراءة والصدق. كعادتها كما كانت قبل "الجفوة" بدت الإسكندرية مشرقة تفتح ذراعيها لي كمحب لها وعاشق لهوائها، متلهف لبحرها، تغسل هموماً وأوجاعاً وأحزاناً وتزيلها وتمحو آثارها تماماً كما تفعل مع الملايين غيري واحداً تلو الآخر عندما يهرب إليها كل جريح أو مقهور حتي لو كان الجاني علي بعد خطوات أو كانت أنفاسه الكريهة تصل إليك وأنت هناك. بمجرد أن تتنفس نسيم بحر الإسكندرية فإنه كفيل بإعادة العقل إلي صوابه وإراحة القلب من أوجاعه، كما أن التعامل مع الإسكندرانية الطيبين بما يملكون من وفاء وإخلاص وشفافية وأخلاق ومبادئ ورقي وتحضر ينبهك إلي أن كل الناس ليسوا فاسدين أو كذابين أو طماعين أو مجرمين أو يبيعون أنفسهم مقابل أي ثمن مادي أو معنوي، أو يتخلون عن المبادئ والأخلاق إذا ما أشار لهم أحد بجزرة يسيل لعابهم عليها. في الزيارة القصيرة التقيت فئات اجتماعية وثقافية وعمرية متباينة، لكن جمع بينهم الصفات النبيلة نفسها التي فقدها غيرهم بفعل الجشع أو الفساد أو انعدام الضمير. ورغم الشكاوي التي سمعتها من بعضهم حول الأمور الحياتية أو الخوف علي المستقبل فإنهم جميعاً رسّخوا في وجداني الشعور بأنه مازال في مصر أسوياء يدركون أن حل مشكلات الحياة وتأمين المستقبل بالنسبة لهم لا يمكن أن يجبرهم علي السير في طريق فاسد أو البحث عن مكسب محرم أو تغييب العقل والسباحة في مستنقع الجهل والتخلف وانعدام الأخلاق. ذكرني أبناء الإسكندرية أثناء الزيارة بتساؤلات الشاعر الراحل عبد الرحيم منصور "اتكلمي وليه تسكتي للزمن اتكلمي؟ ليه تدفعي وحدك التمن اتكلمي؟ وتنامي ليه تحت الليالي اتكلمي؟". إذ لا يستحق كل مجرم أو فاسد أو أحمق أبداً السكوت عن جرائمه أو حماقاته، حتي إن سكتنا أو عفونا عند المقدرة. وفي النقاش حول الأوضاع في المدينة التي تعود دائماً إليها الحياة، تسللت إلي عقلي كلمات الشاعر الجميل سيد حجاب "بحُبك انتِ رفعنا رسنا لفوق" إذ يسعي أبناء المدينة الساحلية الجميلة إلي الافتخار بأنفسهم في مواجهة الذين لا يشعرون بأن عليهم أن يخفوا رؤوسهم من الخجل عما ارتكبوه في حقها.. هؤلاء الذين يبيتون لياليهم دون أن يدركوا أنفسهم علي حقيقتها وعقولهم ملوثة بالانحراف والفساد والرغبة في الاستحواذ علي حساب الآخرين. أدركت من النقاش مع "الإسكندرانية" الطيبين أن الحق لابد أن يعود لأصحابه وأن الإساءة حتما ترد إلي كل مسيء حتي لو بعد حين وأن المخطئ سيدفع يوماً ثمن أخطائه حتي لو اعتقد أن مالاً يحميه أو جهلاً يعميه عن رؤية الحقيقة. عدت من الرحلة القصيرة محملاً بمشاعر فياضة عن الماضي الذي كان والحاضر الكائن والمستقبل الذي سيكون، وبقي عقلي يسترجع كل ما جري ويفخر بالإسكندرية وأهلها، وحين تسللت مرة أخري إلي بقايا تصرفات الذين أساءوا إلي كل مدينة مصرية جميلة تساءلت في نفسي: كيف ينامون دون أن يرددوا أبيات عبدالرحمن الأبنودي في فيلم "البريء" عندما اكتشف بطل الفيلم حجم الجريمة التي ارتكبها حين كان عقله غائباً والجهل يحرك مشاعره والتخلف يحكم تصرفاته: "الدم اللي في ايديا بالليل ينده عليا ويقول لي قتلت مين؟" وعدت إلي صوابي وأدركت أنهم بكل تأكيد لا يفعلون.