في هدوء شديد، رحل الأسبوع الماضي المفكر العربي الشهير الدكتور محمد عابد الجابري، أحد أهم المفكرين العرب في الربع الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تاركاً وراءه ذخيرة فكرية لتحليل العقل العربي، ولاستكشاف فرص تحرره من أغلاله، واستشراف مجالات تطوره... رحل الجابري في هدوء لا يتناسب مع ما فجره من قضايا، ولا يتناسب مع ما حركه وما غيره من مفاهيم تتعلق ببنية العقل العربي. تتبعت أعمال الدكتور محمد عابد الجابري منذ منتصف الثمانينيات، وذلك منذ أن أتيحت لي قراءة كتابه المهم "تكوين العقل العربي" ثم كتابه "بنية العقل العربي"، "العقل السياسي العربي" وهي الثلاثية التي أحدثت في مجال الفكر ما أحدثته ثلاثية نجيب محفوظ في الأدب.. وكان مشروعاً فكرياً متكامل الأركان، ومتعدد الجوانب والزوايا.. وقد لفت نظري في العناوين الثلاثة استخدامه لكلمة العقل بديلاً عن كلمة الفكر.. وأعجبني تفسيره لذلك، إذ يقول "ليس ثمة شك في أن عبارة "العقل العربي" التي جعلناها عنواناً لهذا الكتاب ستثير في ذهن القارئ، الفاحص لما يقرأ، أكثر من سؤال: هل هناك عقل خاص بالعرب، دون غيرهم؟ أو ليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، أي إنسان، تميزه وتفصله عن غيره؟... ولقد كان يمكن تفادي مثل هذه التساؤلات لو أننا استعملنا كلمة فكر بدل كلمة عقل.. بيد أن ما سنهتم به في هذا الكتاب ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار".. ولعل السمة الأساسية للجابري هي أنه كان صاحب مشروع حضاري وفكري.. لقد كان مثقفاً كبيراً، ولكنه يتجاوز مفهوم جمع المعلومات وتحصيلها إلي مفهوم إعادة نشرها، واستخدامها في بناء كيان فكري شامل وكبير.. ولم يستعرض الجابري في أي من كتبه، علي كثرتها، معلوماته التي اتسعت لتشمل ميادين معرفية واسعة.. وكان الجابري مفكراً كبيراً، ولكنه لم يترفع عن واقع أمته، وعن حاضر الشعوب العربية، بل كان متفاعلاً معها، ومتعاطياً مع مفرداتها، ومندمجاً في أنشطتها... وكان الجابري منفتحاً علي الثقافات الأجنبية، بحكم إجادته التامة للإنجليزية والفرنسية، ولكنه كان عربياً في أساسه، عربياً في توجهاته.. ويعتبر الدكتور محمد عابد الجابري هو مبتكر مصطلح "العقل المستقيل" في إشارة إلي الحالة التي عليها الآن العالم العربي، وهو ذلك العقل الذي يبتعد عن النقاش في القضايا الحضارية الكبري، وينشغل عنها بالقضايا التافهة، أو القضايا التي لا تقدم ولا تؤخر.. ومن ثم يصل الجابري إلي نتيجة مفادها "أن العقل العربي بحاجة اليوم إلي إعادة الابتكار". رحم الله محمد عابد الجابري، مثقفاً موسوعياً، ومفكراً صاحب مشروع حضاري، وكاتباً مهموماً بقضايا أمته.