كنا صغاراً.. نستمع وقد نضحك ونحن نقرأ مغامرات أرسين لوبين، وعلي غلاف الرواية «اللص الظريف» تأليف «موريس لبلان» كان الباشمهندس أرسين يسرق من الأغنياء كي يعطي الفقراء.. غالباً كده يعني، وذلك عن طريق الخطة والحيلة مع الذكاء النادر بالطبع، وفي النهاية ينجح، ونفرح بذلك حتي كونه لصاً أولاً وأخيراً.. وتمر السنوات وأتذكر الأخ لوبين دون استمتاع أو ضحك هذه المرة.. ودون سرقة من الأغنياء لصالح المحرومين. الحبكة الحالية تتمثل في سلوك شركة مياه الإسكندرية.. حيث يفترض أن يمر موظف أو مراقب الشركة لأخذ قراءة عداد المياه شهرياً.. كويس كده؟ إلا أن الكابتن ينسي هذا الإجراء الشكلي ويمر كل 3 شهور مثلا. وربما بدافع الكسل، أو أن العجلة (وربما العداد) من الشيطان، أو ربما بدافع الخجل والبيوت لها «حرمة» تمام كده؟ لكن الموضوع يا سادة إن الشركة تحاسب المواطن - طبقاً لقراءة العداد بواقع «40 قرشاً» لشريحة المياه أقل من 50 متراً مكعباً، ثم بواقع 240 (مائتين وأربعين) قرشاً للشريحة فوق 50 متراً. وبالطبع يا حضرات لما سيادة الكشاف يتأخر شهرين وثلاثة وأحياناً أربعة تتخطي الشريحة ال50 متراً، وبالتالي يا إخوان يتم الحساب بسعر 240 لمعظم الفاتورة. ثم أحياناً يقوم سيادته، أو الشركة - بمحاسبة المواطن جزافاً.. وبمبلغ بسيط، حتي ينام مرتاح البال والجيب، وبعد كذا شهر ياخد قراءة سليمة، وبالطبع يطلع علي المستهلك فرق يتخطي حاجز ال50 .. يعني فجأة يكتب في الفاتورة: فروقات (يكتبها هكذا.. جمع الجمع: فروقات.. فارسي كده)، فروقات 200 متر مثلاً.. وفي إيصال واحد.. ويا الدفع.. يارفع العداد وقطع المياه.. هي آفة مصرية مستحدثة.. تصنع رسوم القمامة أو النظافة، مع رسم الصرف الصحي، مع الدمغات وضريبة المبيعات كمان، وغيرها.. علي فاتورة المياه.. في صورة جباية أو فردة (بكسر الفاء)، مع كسر النفس ( والمضحك هنا كمان.. أن تسعيرة المياه تزداد كل مدة دون مبرر.. تتضاعف قيمة الفاتورة فجأة. وعندما تبادر بسؤال المحصل بعصبية ظاهرة: هو كل شهر زيادة؟ هو كل واحد أو مسئول يتصرف بمزاجه وعاوز يجمع فلوس وخلاص.. دون مقابل تحسين خدمة؟ يرد بكل براءة: يا بيه مافيش زيادة ولا حاجة من 3 شهور؟ (كتير.. مش كده؟). يصيبك أسلوب التعامل مع المواطن، الذي يدفع دوماً، يصيبك بالحزن وبما هو أكثر.. وهل تتصور أن هناك رسم (تذكرة) زيارة المريض في المستشفي الحكومي.. الحفلة (قصدي الزيارة) الصباحية 3 جنيه، والمسائية 5 جنيه للفرد والأطفال تذاكر كاملة. وفي مصلحة أو شركة أو هيئة (لم أعد أعرف التسمية حقاً من كثرة التباديل والتوافيق، المهم في مصلحة البريد حدث معي كثيراً ما يلي: أرسل خطابات للخارج أو محلياً وبها مطبوعات.. وأطلب من الموظف أن يزن الخطاب مسجلاً أو عادة لتقدير الرسم المطلوب وبل وأكثر من ذلك ألصق علي الظرف طوابع أكثر أو أغلي ثمناً من المطلوب أحياناً، كي أضمن وصول الخطاب.. ومع ذلك حدث عشرين، ثلاثين، أربعين مرة. عدم وصول الخطاب. وفي حواديت مخالفات المرور، وفي رسوم المدارس الخاصة ( اللغات)، ورسوم عقد القران، ورسوم استخراج شهادة دراسية أو حكومية، ورسوم استخراج رخصة مبان، أو سجل تجاري، أو التصديق علي مستند، أو شهادة طبية، وغيرها.. عشرات الحالات التي أترك لك كتابة ما وراءها.. بين قوسين.. وكلها حواديت لا تصل لحبكة الأخ أرسين ولا حتي للدكتور بتاع شركة المياه. لكن بمناسبة حدوتة الميه دي.. للموضوع جانب إيجابي يتندر به البعض. يقول لك: أصل الموظفين هناك يتعاطون المرتب مرتين وثلاثة شهرياً.. والناس لبعضها.. أنت يعني تكره الخير لغيرك؟! ثم إن دي أرزاق وما استحق أن يعيش من عاش لنفسه فقط. ثم إن بيقولوا اللي ينجح في الحصول علي وظيفة في شركة من بتوع الفواتير دي.. لازم يدفع عشرات الألوف.. اتساهل يا عمنا.. قلبك كبير. مع هذا يا أفندية.. لم تتغير معاملة الموظف المصري مع الممول.. ونكرر أن مرتب هذا الموظف يتم تجميعه من جيب المواطن، ومع هذا يدخل ذلك المواطن أي مكتب حكومي أو في شركة تتعامل مع الجمهور.. وكأنه حرامي غسيل أو شحات من بتوع السيدة، وفي أحسن الحالات: ضيف ثقيل الظل والدم، غير مرغوب في حضوره ( حتي ولو كان ها يدفع) علي عكس أي مبدأ أو نظرية أو عرف، وطبعاً نحفظ جميعاً شكل الموظف المصري القابع خلف مكتب ضخم (مع كرش أحياناً) وكوب شاي وبقايا سجائر، وورق كثير دون مبرر الموظف يتشاغل منهمكاً في قراءة ورق فاضي أو جريدة قديمة.. والمواطن واقف مثل أي مذنب، صباح الخير يا أستاذ.. أنا جاي أسأل سيادتك» يقاطعه الموظف «فوت بكرة .. النهاردة عندي زحمة شغل» واقسم أن شقيقي جمال وهو مهندس ميكانيكي دخل مصلحة حكومية لختم شهادة.. وكنت معه.. وبمجرد دخولنا مكتب الموظف قال جمال: «صباح الخير» ولم يكمل ولم يستخرج أي مستند من حقيبة يده.. رد الموظف المقصود: «طلبك مش عندي» قال جمال «هو ايه اللي مش عندك، أنا أول مرة أدخل المكتب ده، وأنت مش عارف أنا عاوز ايه؟! رد الموظف: «روح لمكتب تاني.. اللي مش عندي مش عندي»!!! واقسم أنني ضحكت يومها كما لم أضحك مع أفلام نجيب الريحاني، حيث يا سادة المهم الدفع فقط.. وبعدها.. لا شيء يهم علي رأي إحسان عبد القدوس حتي الحبكة الدرامية أو الأرسين لوبين.. لم تعد تهم.. ادفع واتظلم أقصد.. ادفع ولا تتظلم، المضحك إن اسمها «مصلحة».. مصلحة حكومية.