في المقال السابق بينتُ أن التوحيد هو حق الله علي العبيد وحق العبيد علي الله أن يُدخل من حقق هذا التوحيد الجنة علي ما معه من العمل وفي هذا المقال أبيّن التحذير والخوف من نقيض التوحيد ألا وهو الشرك وأنه الذنب الذي لا يغفره الله إلا بتوبة قبل الموت وما دونه من الذنوب في مشيئة الله إن شاء عذب بغير خلود وإن شاء غفر قال تعالي: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال الخليل عليه السلام: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) وفي الحديث (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرياء) وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار) (رواه البخاري). ولمسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار) والأدلة السابقة تبين وتقرر ما يلي: - الخوف من الشرك بأنواعه الثلاثة الأكبر والأصغر والخفي. وأن الرياء من الشرك. وأنه من الشرك الأصغر. وأنه أخوف ما يخاف منه علي الصالحين. وقرب الجنة والنار. والجمع بين قربهما في حديث واحد. وأنه من لقيه لا يشرك به شيئًا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار ولو كان من أعبد الناس. - المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. واعتباره بحال الأكثر، لقوله: (رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس) فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري. وفضيلة من سلم من الشرك. ومن خلال ما سبق من التحذير من الشرك والخوف منه حتي أن أبا الأنبياء والرسل إبراهيم عليه السلام يدعو ربه أن يجنبه الوقوع في الشرك رغم أنه الرسول الذي حطم الأصنام ودعا إلي التوحيد. فالخوف من الشرك علامة من علامات قوة الإيمان والأمن من الشرك علامة من علامات ضعف الإيمان ومن هذا الباب كانت الدعوة إلي التوحيد أهم الدعوات. قال تعالي (قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلي اليمن قال له: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله - وفي رواية: إلي أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد علي فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري ومسلم. ولهما عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله علي يديه. فبات الناس يدركون (أي: يخوضون) ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا علي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: (أنفذ علي رسلك حتي تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلي الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالي فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم). والأدلة السابقة تبين وتقرر ما يلي: إن الدعوة إلي الله طريق من اتبعه - صلي الله عليه وسلم - والتنبيه علي الإخلاص، لأن كثيرًا لو دعا إلي الحق فهو يدعو إلي نفسه. وأن البصيرة من الفرائض. ومن دلائل حسن التوحيد: إنه تنزيه الله تعالي عن المسبة. وأن من قُبْح الشرك كونه مسبة لله. وكون التوحيد أول واجب. وأن يبدأ به قبل كل شيء، حتي الصلاة. وأن معني: (أن يوحدوا الله)، معني شهادة: أن لا إله إلا الله. وأن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها. والتنبيه علي التعليم بالتدريج. والبداءة بالأهم فالأهم. ومصرف الزكاة. وكشف العالم الشبهة عن المتعلم. والنهي عن كرائم الأموال. واتقاء دعوة المظلوم. والإخبار بأنها لا تحجب. ومن أدلة التوحيد ما جري علي سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. قوله: (لأعطين الراية) إلخ. علم من أعلام النبوة. وتفله في عينيه علم من أعلامها أيضًا. فضيلة علي رضي الله عنه. وفضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. والإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعي. والأدب في قوله: (علي رسلك). والدعوة بالحكمة، لقوله: (أخبرهم بما يجب عليهم). والمعرفة بحق الله تعالي في الإسلام. وثواب من اهتدي علي يده رجل واحد. والحلف علي الفتيا. والآن نأتي إلي تفسير التوحيد وبيان معني شهادة أن لا إله إلا الله من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فقال تعالي: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجُون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) (الإسراء آية (57)) وقال تعالي: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) (الزخرف 26، 27) وقال تعالي: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (التوبة آية: (31)) وقال تعالي: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يري الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب) (البقرة آية: (165)) وفي الصحيح عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه قال: (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه علي الله). والأدلة السابقة تبين وتقرر ما يلي: - آية الإسراء: بين فيها الرد علي المشركين الذين يدعون الصالحين؛ ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر. - آية (براءة) بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. وبين بأنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لادعائهم إياهم. - قول الخليل عليه السلام للكفار: (إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني). فاستثني من المعبودين ربه. وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون). 4- آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: (وما هم بخارجين من النار) ذكرهم أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل علي أنهم يحبون الله حبا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام؛ فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟! قوله (صلي الله عليه وسلم): (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه وحسابه علي الله). وهذا من أعظم ما يبين معني (لا إله إلا الله)، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتي يضيف إلي ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف؛ لم يحرم ماله ولا دمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!