عدم الانحياز والحياد الإيجابي ليست فقط رؤية سياسية ظهرت في باندونج 1955 عن طريق تكتل مجموعة من الدول في العالم الثالث أبرزها: مصر بقيادة ناصر، والهند بقيادة نهرو ويوغسلافيا بقيادة تيتو وارتكزت هذه الرؤية في الفلسفة السياسية علي عدم الانحياز لأي من المعسكرين المتنازعين «الولاياتالمتحدةالأمريكية - الاتحاد السوفيتي السابق، 1945-1990» في ذلك العالم الذي كان يسمي حينذاك بالعالم الثنائي القطبية. إلا أن عدم الانحياز كمصطلح لم ينشأ في باندونج بل هو مصطلح روحي صوفي ظهر مواكبا للحداثة في العالم في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وارسي معالمه الروحية القديس الإسباني «أغناطيوس دي ليولا» مؤسس الرهبنة اليسوعية «الجزويت» 1520 ميلادية والروحانية مدرسة للحياة الروحية أي النظرة إلي الأشياء والأحداث من منظور روحي وعن العلاقة بين النظرة المادية والنظرة الروحية انشغلت الفلسفة طوال تاريخها بين إجابتين علي سؤال واحد: أيهما أسبق وله الأولوية عن الآخر المادة أم الروح؟ فمن يعطي الأولوية للمادة صار من أبناء مدرسة الفلسفة المادية والعكس من يعطي الأولوية للروح صار من أنصار المدرسة المثالية ومن ثم انقسم الفلاسفة إلي رؤيتين لتفسير العالم رؤية روحية مثالية ورؤية تفسر كل شيء من منظور مادي حتي ظهر القديس أغناطيوس برؤية للعالم من منظور روحي في جدل مع مادية العالم في عصر الحداثة وأعتقد أنه سبق في ذلك «هيجل» الفيلسوف المثالي الذي ارسي معالم الجدل ما بين الروح والمادة نعود إلي رؤية عدم الانحياز الأغناطية وفق «معجم الإيمان المسيحي: حالة إنسانية «نفسية» عند الذي يتمتع باستقلال جذري عن كل ما ليس يرتبط بالله وبتأهب صحيح لكل ما قد يطلبه الله منه ليس عدم الانحياز عدم اهتمام بالمخلوقات ولا تخليا فعليا عن كل شيء بل هو نوع من الحرية الروحية الداخلية الواعية المقصودة وتجرد باطني تام هذه الحالة الإنسانية شرط ضروري علي كل مسيحي يريد أن يعيش ملء إنسانيته وأن يمتثل امتثالا تاما لمشيئة الله في شأنه وينطبق هذا المعني «اللاهوتي» علي الإنسان الصوفي المؤمن بالله بغض النظر عن دينه ومن ثم فالصوفية متواجدة في كل الأديان السماوية مثل اليهودي الاندلسي الأصل المصري الموطن موسي بن ميمون وفي الإسلام نجد ابن عربي وابن رشد وآخرين. وهذه الحالة الروحية الصوفية وسيلة وليست غاية أي هي وسيلة للوصول لرؤية الله في كل شيء ومن ثم فهي ليست دروشة ولا انعزالاً عن العالم ومنذ تأسيس الحركة الرهبانية المصرية علي يد القديس أنطونيوس عام «351» في الصحراء الغربية وكيف انتشرت هذه الحركة بالروح لتشعل نارا صوفية في ربوع مصر والعالم ومازال لهيبها يتوهج علي مدي سبعة عشر قرنا من الزمان تخبو هذه النار تارة وتتوهج تارة أخري وتنتقل بالروح من مكان إلي آخر لكنها أبدا لم تخمد ووفق الكتابات العديدة والمصادر الأكثر تعددا فإن نشأة هذه الحركة الاحتجاجية الروحية ظهرت في صحراء مصر للأسباب التالية: البحث عن الاتباع الجذري والاقتداء بشخص المسيح الاحتجاج الروحي علي تحول المسيحية إلي دين ودولة في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين سنة «313-337» وما تلي ذلك من تأسيس حياة الشركة علي يد القديس باخوميوس «أبوالشركة» في النصف الثاني من القرن الرابع والتي ارتكزت علي ممارسة الرهبان بما في ذلك المتوحدون لعمل يقتاتون منه علي قاعدة روحانية «مشاهدة الله في العمل». والحركات الصوفية في مختلف الأديان تتطلب ممن يعيشونها ممارسة العمل ولا يتعارض ذلك مع من يكرسون حياتهم لخدمة الله والإنسان عبر العالم وعلي هذه القاعة وجد صوفيون كثيرون رهبان أو مدنيون كرسوا حياتهم لخدمة الله من خلال تبني قضايا إنسانية علمية كانت أو اجتماعية مثال رهبان دير أبومقار الرهبان اليسوعيين والفرنسيسكان والدومنيكان ومنهم علماء استطاعوا أن يقدموا للعالم الكثير من المنجزات في شتي أنواع العلوم مثل «مندل» في علم الوراثة ومنهم من حصل علي نوبل في العلوم أيضا ومن خلال جهادهم الروحي العلمي للعالم تأسست الجامعات الأشهر مثل السربون وجورج تون وأكسفورد وأكثر من مائة جامعة أخري الآن ارتبط تأسيسها برهبانيات واديرة بل ومدن تم تأسيسها مثل «سان بولو» العاصمة البرازيلية التي أسسها الأباء اليسوعون وسان فرانسيسكو التي أسسها الآباء الفرنسيسكان ولم تعرف مصر استصلاح الأراضي وتخضير الصحراء إلا عبر الرهبنة المصرية وكذلك نشأة الحركات الاجتماعية الخيرية التي سبقت المجتمع المدني عبر آباء صوفيين مصريين مثال أغلب المدارس الكاثوليكية والمستشفيات مثل اليوناني والإيطالي والقبطي والمؤساة ومؤسسة مصطفي محمود الخيرية. وفي الإعلام والفن تبرز أسماء كثيرة منها مهرجان الفيلم الكاثوليكي الذي أسسه الأب يوسف مظلوم الفرنسيسكاني والسينما المستقلة التي بدأت مع الراهب اليسوعي الراحل فايز سعد والأب وليم سيدهم اليسوعي وفي الإعلام وفي السياسة نستطيع أن نجد راحلين وأحياء منهم الصحفي البطريرك شنودة الثالث والقمص متي المسكين والأب الدومنيكاني جورج قنواتي والصوفي مصطفي محمود والكاتب الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي والسياسي الصحفي خالد محيي الدين وآخرين أطال الله أعمارهم ورحم الله من رحلوا وأعان من هم علي الطريق من الشباب الصوفي المعاصر. هؤلاء الذين لم يسعوا للشهرة أو المال أو السلطة حتي وإن جاءت إليهم وعاشوها فكانوا مثل الذين في النار ولم تخترق ثيابهم هؤلاء الذين سعوا للسبق الصحفي أو العلمي أو الفني من أجل الإنسان ولم يسخروا الإنسان من أجل السبق وهكذا كرسوا حياتهم لكل إنسان ولكل الإنسان. كان هذا رداً علي سؤال من أحد تلاميذي في التكوين الصحفي عن معني حياتي الحالية وبمن اقتدي؟