قصيدته لم تعد مشروعا أو رؤية للعالم أو غيرها من التعبيرات الأيديولوجية التي شاعت في تجارب شعرية غربية وعربية في مطلع الستينيات، وإنما تعبر عن لحظة راهنة تتشكل بارتباطها الوثيق والمباشر بالسلوك اليومي والأفكار الطارئة والتداعيات المباشرة للحوادث والمشاهد. إنه شربل داغر الشاعر والناقد والمترجم والأكاديمي اللبناني، صاحب المشروع الشعري المتميز ومجموعة الدراسات الجمالية والترجمات والدراسات النقدية، الذي تحدث إلي "روزاليوسف" عن مجموعة الشعرية الأخيرة "وليمة قمر" في هذا الحوار قائلا: قصائد المجموعة عبارة عن استدعاء لمرحلة الشباب مع الرفاق والأصدقاء بين دروب ووديان الطبيعة اللبنانية الجميلة في قريتي في جنوب لبنان وأنا هنا أدعوهم للاجتماع علي هذه الوليمة من الذكريات ذات الطابع الشجي، وإن كنت أعلم أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل تجميع هذه الصحبة من الأصدقاء مرة أخري لتعقد الحياة وتفرق السبل بأعضاء هذه الرفقة. العنوان يشي بنزعة رومانسية .. فهل لاتزال الطبيعة اللبنانية ملهمة للشعراء؟ - هذا النص استعيد فيه ابتداء من درج الطفولة في قريتي بعضا من مشاهد ووقائع السيرة في مكان ولادتي في إحدي قري لبنان الجبلية وأنا إذ استعيد صور الماضي أقوم ذلك ابتداء مما أعايشه فيها وليس من موقع الحنين والتذكر الخالصين، فالقصيدة تبني وفق علاقة تبني بين عيش اليوم وما عشته الأمس بين عمري اليوم وأحلام الطفولة ومأمولاتها، بين ثقل العيش الحالي وفقه الإقبال علي الحياة في صندل المراهقة. وهذه الحنين يجعل الأشياء صافية والاحتفاظ أحيانا بالأشياء الجميلة يخفف من وطأة الحياة وبالتالي تصبح صورة الوطن أكثر من جميلة ومشتهاة ومشهد الصخر والشجر مشهد فيه حنين وعودة ووجع البدايات والعودة أيضا "بعد عودتي من باريس". وأنا لا أسعي إلي نوع مختلف من الغنائية فالشعر الغنائي نوع من الغزل واحترام الحبيبة وغنائيتي مخففة وخافتة بعض الشيء وأحيانا غنائية عكسية لا تقول "فتوة الأنا" ولا "شهوة المتكلمين". والطبيعة ليست حاضرة في الشعر اللبناني الحديث لأن الشعر اللبناني الحديث شديد التنوع والاختلاف وهذا الشعر يمكن إدراجه تحت يافطة واحدة هي "العشوائية الشعرية" وأصبحت الطبيعة اللبنانية قاسية وفقدت براءتها بفعل الحرب والتحولات المجتمعية والثورة التكنولوجية. في قصيدتك "جثة شهية" استخدمت تقنيات المسرح .. لماذا؟ - هذا صحيح القصيدة نص شعري مسرحي يلعب فيه المتكلمون دور الممثلين وهم يشاركون في الحدث والمشاركة عينية وليست مجرد تفسير عقلي وقد تأثرت في ذلك بالمسرح البريختي، الذي يتفاعل فيه الممثل مع الجمهور ويناقشهم، وهذا ما فعلت في نصي، حيث شاركت القارئ، والحدث يتأرجح فهو يبدو أحيانا كلعبة، وأحيانا أخري كجريمة، وأحيانا كبث تليفزيوني ليكتشف المتكلمون في النهاية أنهم مشتبكون في خيوط من نسج الكاتب. ومسرحة الشعر وتأديته نتاج متوقع في زمن تداخلت فيه الرواية والفيلم واندمجت فنون الكتابة بتكنولوجيا الرقمنة ..لم تعد القصيدة قادرة علي ادعاء العزلة فالشعر بوصفه نوعا أدبيا لم يتواجد بوصفه أصلا يسبق وجود الشاعر، لكنه نتاج للمتغيرات التاريخية التي تشكل اللغة، ويتشكل بها كاتب النص. هل تريد من ذلك تهميش الأنا في النص؟ - أوافقك تماما، الشعر العربي في جزء كبير منه شعر الفحولة والأنا المتضخمة وأردت في شعري التخفيف من سطوة الأنا في القصيدة العربية الحديثة هناك متكلم يتحكم بالقصيدة الحديثة يسوقها والكلمات مثل الراعي مع قطيعه يريد للكلمات أن تكون لسانه وان يكون الكلام واضحا ناجزا مبرما لا وجود لأي ارتباك أو تناقض، فأنا أقول شيئا وعكسه لأننا كذلك كبشر وشعراء. دائما ما تذكر اسمك صراحة في أشعارك ألا تري ذلك نوعا من النرجسية؟ - إطلاقا، فهذا حدث صراحة في مجموعتي الشعرية الأولي "فتات البياض"، لأن المتكلم في القصيدة يتحدث عن المدعو شربل، والحديث عن اسمي لا يشير إلي المديح، أو الاحتفاء بالأنا، ولكنه ينحو إلي السخرية والنقد وتوجيه الأسئلة وهذا النوع من التعدد الذي يقيمه الكاتب حول اسمه، يشير إلي قلق وجودي في علاقة الاسم بالشخص، لكن في دواويني التالية ابتداء من "ترانزيت" ستري شربل داغر يتسلل بين السطور، ولن تستطيع أن تضبطه وتضع إصبعك علي اسمه، ونحن دائما نتحدث عن الشاعر الإنسان والكاتب في النهاية صانع شخصيات وهذا نراه في المسرح والرواية ولا نراه في الشعر، فالشاعر ليس معبرا فقط ولكنه يجد ذاته وظيفة تعبير وما يعبر عنه يتعداه، ويصل إلي تعبير أحيانا ما أراد أن يصل إليه فقال هذا جيد وهذا احتفظ به، وهذا رديء. هل أثرت ترجمتك للعديد من عيون الشعر العالمي علي نصك الشعري؟ - بالفعل قد تأثرت ولكن كيف أثرت لا اعرف ، من المؤكد أنها أثرت لأني دخلت إلي عوالم وتجارب شعرية كثيرة وبعض ما ترجمت من شعر هو بعض ما أردت أن أكتبه أنا والترجمة هي طريقي في تملك شعر غيري وهي ملكة خيالية تغني المعني بمختلف الأحوال وتقوي من قدراته التعبيرية وبالتالي فهي مثل اللياقة البدنية للشخص الرياضي. هل تعتقد أن مقولة: القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ لا تزال صحيحة؟ - لا تزال بيروتوالقاهرة مركز إشعاع ثقافي في العلم العربي، وبغداد تخلفت إلي حد ما بفعل الاحتلال، ولكن الجديد هو ظهور مراكز ثقافية جديدة في الخليج بإمكاناته المادية لجذب فراشات الإبداع إلي دائرة الضوء التي يحاول أن يجعلها مضيئة وأن ساهمت كل الأسماء العربية في استمرارها. بعد الحرب اللبنانية الأخيرة.. هل تعتقد أن الكلمة تفعل في الحياة فعل الرصاصة؟ - الرصاصة ليست قادرة علي الهدم، بينما الكلمة قادرة علي البناء والهدم لكن الرصاص أسرع وأكثر فاعلية لكن الكلمة قادرة علي تعزيز أفق التواصل بين أبناء الأمة العربية التي ليست متحدة للأسف لكنها لا تفعل فعل الرصاص في الحياة أنها مثل عوامل التعرية التي ندرسها في الجغرافيا تحتاج لوقت طويل لترسم تغييرا في خارطة الحياة.