بالتأكيد، يعرف السيد وزير الإسكان المثل الشهير الذي يردده ويحتكم إليه المصريون كلما وجد أي منهم نفسه أمام خيار صعب عليه أن يفاضل فيه ما بين إرضاء الموتي.. وإرضاء الأحياء!. ولعل معرفة المهندس أحمد المغربي ويقينه بأن الحي أبقي من الميت لدي أغلب المصريين كانت وراء قراره الشجاع منذ أيام قليلة بإنشاء شركة قابضة للمدافن تتولي مسئولية إنشاء مقابر نموذجية بمساحات مختلفة في طريق القاهرة / السويس الصحراوي تنقل إليها جميع مقابر القاهرة القديمة. وبداية لست ضد هذا التوجه من جانب السيد وزير الإسكان بل إنني سوف أتعرض حتماً لانتقادات قاسية من جانب أهلي أنفسهم عندما أشد علي يد هذا الوزير الشجاع خاصة أنني شخصياً تجمعت لدي دراسات وتقارير رسمية تقول بأن تكلفة معالجة المياه الجوفية التي أغرقت عدداً كبيراً من هذه المقابر القديمة تفوق بكثير تكلفة بناء مقابر بديلة.. وطبعاً عين الدولة بعيدة.. لكن يدها قصيرة قصيرة للغاية! ولست أبالغ حين أكتب أن الوزير المغربي كان شجاعاً عندما أعلن قرار إنشاء شركة قابضة لبناء المدافن.. ولكنني لا أبالغ أيضاً حين أقول إن هذا الوزير اختار بنفسه أن يدخل بهذا القرار غير التقليدي عش.. بل ربما الأصح أن نقول أعشاش الدبابير! من داخل هذه الأعشاش تنطلق الدبابير تطير وتحوم.. تلسع الوزير الجرئ بتساؤلات بريئة.. وتساؤلات أخري غير بريئة ولكنها تساؤلات منطقية فرضتها أحوال العلاقة المضطربة بين الناس والحكومة ولا أقصد هنا الحكومة الحالية وحدها بقدر ما أقصد الحكومات السابقة كلها. أصحاب هذه المدافن القديمة التي تمتد علي مساحة 1400 فدان يسألون الوزير (وظني أنه حتماً سيجيب) هل هدفك الحقيقي من إزالة المدافن هو استغلال هذه المناطق ضمن المخطط الذي وضعته للقاهرة 2050 لتكون مساحات خضراء يتنفس فيها الأحياء الصعداء في خضم معاناتهم اليومية التي لا تنتهي» أم أن هدفك غير المعلن هو أن تسقط تلك المساحات الواقعة في وسط البلد في حجر رجال المال والأعمال وأصحاب النفوذ؟! ويسألونك يا سيادة الوزير: وماذا ستفعل لنحو مليون ونصف مليون بني آدم هم سكان هذه المقابر كما قالت أحدث دراسة أصدرتها وزارتك؟!.. هل جهزت لهم شققاً بديلة تعويضاً لهم عن قرارك نقل المدافن وإزالتها؟! ويسألونك: احنا يا معالي الوزير راضيين بالهم.. فهل ستخصص لنا شركة المدافن مدفناً بديلاً جاهزاً بالمجان.. أم أننا سوف نشتريه من جيوبنا؟! ويسألونك يا معالي الوزير: لماذا لم تطرح فكرة نقل المدافن لنقاش علني يدلي فيه أصحاب المدافن بآرائهم جنباً إلي جنب مع خبراء الإسكان وعلم الاجتماع وعلماء الدين؟! أترك خندق أصحاب المدافن لأنقل لكم مخاوف خبراء الآثار والعمارة الذين يؤكدون رفضهم الشديد نقل المقابر مستندين في هذا الرفض إلي أن اقتراح وزارة الإسكان بنقل المقابر لا يقوم علي أي أسس علمية ولا يراعي طبيعة مناطق المدافن في القاهرة الإسلامية.. وهذه المخاوف تجعلهم لا يتقبلون هذه الفكرة التي يعرف الكثيرون أن وراء من يطالبون بنقل المدافن وإزالتها يكمن رجال الاستثمار العقاري والسياحي من العيار الثقيل.. معالي الوزير.. لا أحد يشعر بالرضا وهو يقرأ في صفحات الحوادث عن الجرائم التي ترتكب في القبور كتعاطي المخدرات وشرب الخمر والجرائم المخلة بالآداب.. لا أحد يوافق علي أن يرتكب هؤلاء المجرمون جرائمهم تلك وينتهكون حرمة الموتي.. لا أحد يبدي رضاءه عن سكان المقابر أو مستأجري الأحواش للسكني فيها.. لا أحد يرضيه أن تعيش آلاف الأسر داخل هذه المدافن بدون مطبخ.. وتستخدم دورات مياه جماعية عبارة عن أحواض محفورة تحت هذه المقابر!.. معالي الوزير.. إجمالاً لا أحد عاقلاً في بر مصر يرضيه أن تكون هذه هي أحوال البؤساء الذين يسكنون هذه المقابر.. ولا أتصور أن هناك عاقلاً واحداً يقف ضد نقل هذه المقابر القديمة التي بنيت من حولها مناطق ومناطق بعد أن كانت في أطراف المدينة. لكن.. يا معالي الوزير.. لم يقل لنا أحد ما هي ميزانية الشركة القابضة.. ولم يقدم أحد للناس أية معلومات شافية تطمئنهم أن عملية نقل المدافن سوف تكون لصالحهم.. نعم.. «الحي أبقي من الميت».. ولكن أليس من الأفضل أن تتشارك الحكومة مع الناس في إصدار القرارات.. حتي تكون هذه القرارات لصالح كل الناس فعلاً.. بدلاً من أن تكون هذه القرارات صادمة للناس.. فينصرف عنها الناس.. وتكسب الحكومة من جديد مساحة من الغضب لا أتصور أن الحكومة الحالية في حاجة إليها بالمرة!!