في مواجهة صورة رجال الأعمال القاتمة التي تتجمع خطوطها وألوانها في برامج «التوك شو» أو البرامج الحوارية وتجسدها موجة الأفلام الكارثية المعاصرة وأغلب مسلسلات الدراما التليفزيونية، قفزت إلي ذهني صورة الاقتصادي المصري طلعت باشا حرب «1867 - 1941» ابن الجمالية بالقاهرة حيث ولد بشارع قصر الشوق، الذي كان محور قصص الأديب المصري نجيب محفوظ، وابن الطبقة الوسطي، المنتمي لإحدي قري منيا القمح بالشرقية، وكان متفوقًا في سني دراسته قبل الجامعية فالتحق بالمدرسة التوفيقية بشبرا ثم مدرسة الحقوق العليا «كلية الحقوق» ليتخرج فيها ويعمل بالقضاء متدرجا في وظائفه ليصل إلي وظيفة مدير قلم القضايا، كان تخرجه عام 1889 بعد سنوات قائل من الاحتلال الإنجليزي لمصر، وتتفتح مداركه الوطنية علي ثورة عرابي وتتبلور في ثورة 19، وبينهما يترك السلك القضائي لينتظم في العمل بالشركات ويستقر به المقام في إدارة الشركة العقارية المصرية، وفيها يتبني الدعوة لتمصير الشركة وينجح في مسعاه في أن تصبح غالبية أسهمها ملكًا لمصريين. هنا يتجه إلي التعمق في دراسة علم الاقتصاد والآداب ويتقن اللغة الفرنسية ويتواصل مع جميع التيارات العلمية والثقافية وامتزج بالكثير من أقطابها، حتي قال عنه أحد معاصريه «كان طلعت حرب متعدد المواهب ولولا إخلاصه وتفرغه لدعم ومساندة ثورته الاقتصادية لأصبح واحدا من كبار المفكرين والكتاب العرب). لم يكن طلعت حرب وقتئذ شابًا له طموحاته لأن يصبح رجل أعمال بل كان يسعي لدعم استقلال وطنه مصر من مدخل الاقتصاد، وحين تطالع ما كتبه عام 1907 علي صفحات "الجريدة" تكتشف كيف يؤسس للاستقلال عبر إعادة هيكلة طموحات الشباب وتوجيهها توجيها عملياً في كلمات محددة يقول فيها "نطلب الاستقلال العام ونطلب أن تكون مصر للمصريين وهذه أمنية كل مصري ولكن مالنا لانعمل للوصول إليها؟ وهل يمكننا أن نصل إلي ذلك إلا إذا زاحم طبيبنا الطبيب الأوروبي ومهندسنا المهندس الأوروبي والتاجر منا التاجر الأجنبي والصانع منا الصانع الأوروبي وماذا يكون حالنا ولا (كبريتة) يمكننا صنعها نوقد بها نارنا ولا إبرة لنخيط بها ملبسنا ولا فابريقة ننسج بها غزلنا ولا مركب أو سفينة نستحضر عليها ما يلزمنا من البلاد الأجنبية فما بالنا عن كل ذلك لاهون ولانفكر فيما يجب علينا عمله تمهيدا لاستقلالنا إن كنا له حقيقة طالبين وفيه راغبين، وأري البنوك ومحلات التجارة والشركات ملأي بالأجانب وشبابنا إن لم يستخدموا في الحكومة لايبرحون القهاوي والمحلات العامة وأري المصري هنا أبعد مايكون عن تأسيس شركات زراعية وصناعية وغيرها وأري المصري يقترض المال بالربا ولايرغب في تأسيس بنك يفك مضايقته ومضايقة أخيه وقت الحاجة، فالمال هو (أس) كل الأعمال في هذا العصر وتوأم كل ملك". يبدو أن الفلاح الكامن في أعماقه قد ألح عليه بالمثل المصري العبقري (إذا أردت أن يكون قرارك من رأسك فلابد وأن يكون رغيفك من فأسك) لم يكتف الرجل بطرح رؤيته علي الورق ولم يقع في حبائل التنظير، بل راح يترجمها علي الأرض. ولأن الإصلاح يبدأ فكراً فقد طرح رؤيته في كتابين الأول عام 1911 "علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين" الذي ساهم في قبول فكرة إنشاء بنك مصر في مواجهة البنوك الأجنبية. والثاني عام 1912 "قناة السويس" الذي كان بداية لحملة ممتدة قطعت الطريق علي تمديد عقد احتكار قناة السويس لمائة عام تبدأ بعد انتهاء العقد الساري وقتها الذي ينتهي عام 1968، تعطل تنفيذ فكرة البنك إثر اندلاع الحرب العالمية الأولي، لكنها تنبعث من جديد مع تفجر ثورة 19، التي في أثنائها يعاود طلعت حرب دعوة أبناء مصر إلي الكفاح ضد سيطرة الأجانب الاقتصادية علي المقدرات المصرية وينجح في إنشائه عام 1920 ويحتفل بتأسيسه في 7 مايو 1920 بدار الأوبرا السلطانية برأس مال 80 ألف جنيه وتم تحديد قيمة السهم بأربعة جنيهات مصرية وفي نهاية عامه الأول ارتفع رأس مال البنك إلي 175 ألف جنيه ثم إلي نصف مليون جنيه عام 1925 ثم إلي مليون جنيه عام 1932. وترصد دراسة تاريخية ملامح في شخصية طلعت باشا حرب نقرأ فيها (بدأ بنك مصر في ركن متواضع في شارع الشيخ أبي السباع. كان طلعت حرب شخصية شديدة الحيوية والديناميكية ينهض مبكراً ويبدأ العمل في السادسة صباحا ويصدر التعليمات إلي رجاله وظل يعمل لمدة خمس سنوات لمدة 15 ساعة يوميا وبدون مقابل. وقد استفاد طلعت حرب كثيراً عندما ارتبط في بداية حياته بعلاقة وثيقة مع عمر باشا سلطان مما أكسبه الكثير من الخبرات الاقتصادية والإدارية وفي اتصاله بالحركة الوطنية أيام الخديو عباس حلمي الثاني. ولذلك فقد كان ينظر إلي المال كخدمة عامة يساعد في الحفاظ علي الثروة الوطنية وتصنيع البلاد، وقد أكد ذلك في خطبة افتتاح بنك مصر حيث ذهب إلي أنه ليس بنكا تجاريا حيث إن مهمته الأساسية هي إدخال التصنيع إلي مصر وتشجيع التجارة، وقبل أن ينشئ بنك مصر أنشأ مع صديقه فؤاد الحجازي محلا للبقالة حتي يشجع المصريين علي التجارة ورغم انتقادات المحيطين به إلا أن التجربة نجحت وشجعت الكثيرين علي خوض مجال التجارة وقد تنازل بعد ذلك عن المحل لبعض المصريين، كان شعاره الوحيد "من حسب كسب" وقد كتب عنه جاك بيرك "إن ميزته الأولي كانت في إدراكه للقوة الكامنة والإمكانات الهائلة التي لم تستغل بعد عند مواطنيه". وسرعان ما نجح في تحفيز المصريين علي الادخار في البنك. وبحسب ذات الدراسة فقد قام بنك مصر برسالته الوطنية في تنمية الودائع علاوة علي أرباحه التي استثمرها في إنشاء أكثر من عشرين شركة مصرية، لعل ابرزها شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبري، ومع تأسيس البنك يرفض طلعت حرب رئاسة بنك مصر ويترك المنصب لأحمد مدحت باشا يكن ويكتفي هو بمنصب نائب الرئيس والعضو المنتدب، وقد استدعي الخبير الألماني فون أنار لوضع النظم الداخلية للبنك وفي نفس الوقت أرسل بعثات من شباب مصر إلي إنجلترا وسويسرا وألمانيا للتدريب العملي علي العمل المصرفي، وقد عاد جميع المصريين ليعملوا في بنك مصر، واستطاع بنك مصر وشركاته كما تقول الدراسة عنه امتصاص جزء كبير من البطالة حيث زادت ودائع البنك مقارنة بكل البنوك الأجنبية العاملة في مصر مما أنهي مقولة الاستعمار التي كانت تردد في ذلك الوقت "المصري لايعرف إلا الاستدانة" حيث استطاع بنك مصر تحفيز الادخار لدي كل المصريين حتي الأطفال بعد أن وزع البنك حصالات علي تلاميذ المدارس الابتدائية ثم يأخذ مافيها ويفتح للأطفال دفاتر توفير بالبنك. كما كان طلعت حرب يراعي دائما البعد الأخلاقي في معاملاته وتعاملاته حيث أصدر قراراً بعدم تمويل بنك مصر لأية مشروعات تسيء إلي الخلق العام، وكرامة الإنسان، كما حرص البنك علي مساعدة صغار الصناع والحرفيين للصمود أمام سيطرة المنتجات الإنجليزية علي السوق المصرية ومنافستها وكما شجع البنك قيام شركات المقاولات المصرية ودعمها ماليا بكسر احتكار الأجانب لهذه المشروعات حيث كان الأجانب يقرضون الفلاحين والجمعيات التعاونية بضمان الأرض فإن عجزوا عن السداد يتم الاستيلاء علي الأرض المرهونة، وقد استطاع طلعت حرب أن يتصدي لهذه السياسة الاستعمارية ليتم الحفاظ علي ثروة مصر من الأرض الزراعية، وقد طلب البنك من الحكومة المصرية إنشاء البنك العقاري المصري ليتولي عمليات الدعم للنشاط الزراعي في جميع أنحاء مصر". ومن يطالع سيرته يكتشف منجماً لا ينضب يمد كتاب الدراما بعشرات القصص التي تصنع أفلاماً ومسلسلات تجمع بين الإثارة والمعاناة والنجاحات والأزمات ولا تخلو من الحبكة الدرامية، وتقدم للشباب قصص كفاح ونجاح ووطنية وغيرة حقيقية علي الوطن ونضالاً لا يقل قيمة ومردوداً عن الكفاح المسلح، في زمن لا مكان فيه لغير المنتجين فكراً وعملاً. وقد لا أكون بحاجة إلي أن أقرر أنني غير مسئول عن أية مقارنات تعقد بين هذا النموذج وبين بعض رجال أعمالنا ومشروعاتهم الاستثمارية المنقطعة النظير، أو أولئك الذين هجرت اخبارهم صفحات المال والاقتصاد لتجد لها مستقراً ومحلاً مختاراً في صفحات الجرائم والحوادث وبرامج التوك شو. لكنني أقر بأنني لا أقدر علي أن أمنع نفسي من توقع استنساخ طلعت حرب جديد من رحم شعب ولود ومثابر، وإنّا لفي انتظار الباشا، شريطة أن نجهز المناخ الاقتصادي والسياسي ونكرس الفكر الليبرالي في صحيحه ونغل يد البيروقراطية ونطارد الفساد، ونفعل الرقابة الجادة وفق معايير الشفافية والحيادية وإعادة الاعتبار لثقافة سيادة القانون.