يبدو أن عنوان ندوة "الترجمة والهوية الثقافية" وموضوعها كانا مسيطرين بقوة علي الحضور، خاصة المنصة، حيث أبدي الجميع انزعاجهم من عدم معرفتهم بعضهم بعضًا، للدرجة التي دفعت الدكتورة أنوار عبد الخالق إلي توجيه سؤال مباشر للشاعر والمسرحي اللبناني بول شاؤول عن جنسيته وهويته، وهو ما سبقه تعليق الدكتور حمادي صمود، الذي أدار الندوة، عن عدم وجود أسماء أي من المشاركين الخمسة في كتيب السير العلمية للمشاركين. قدم بول شاؤول بحثا حول "العلاقة بين الترجمة والهوية الثقافية" ناقش خلاله بعض المفاهيم والمقولات حول "الأنا" و"الآخر"، وتلك المتعلقة بمقولة التسامح مع الآخر واحترام خصوصياته قائلا: احترام خصوصيات الآخر لا يعني أن نبقي علي الآخر كما هو، دون أن يتدخل أحد في دينه وتقاليده وسكونه الأبدي، فنتركه ليستنقع في خصوصيته المزينة بنوع من التفاخر العدمي، وبدلا من أن تكون الترجمة أداة خروج تصبح أداة عودة، ولهذا عندما نقول الخصوصية التي صارت مقولة مسلمًا بها، فلنحترم للمجنون اختلافه. وأكمل: لا توجد خصوصيات ثابتة، ولكن هناك ذوات كامنة، تنيرها الترجمة وتستنهضها، فالترجمة تخترع الهوية، وتجعلنا نستكشف ما فينا عبر الآخر، فمثلا اعتدت عندما أقرأ أو أترجم هاملت المسرحية أن تكشف بداخلي شيئًا جديدًا مع كل مرة، لذا أري أن فرنسا اليوم تعاني مشكلة كبيرة تتعلق بالهوية، وقد ظهر هذا بجلاء حين حولت ارتداء مجموعة قليلة جدا من النساء بها للنقاب إلي قضية كأنهن قد يؤثرن علي حضارة وفكر بحجم فرنسا، وذلك لأنهم لم يعودوا يقومون علي أسس فكرية، وإنما علي حسابات سياسية. وأضاف: الترجمة تفكك الكتل الأصولية التقليدية المغلقة علي نفسها، التي لا تريد كشف نفسها، لتصبح ذرات في فضاء لا متناهي، وتعيد إذابتها وصوغها بالإبداع، بحيث يكون كل وصول إلي هوية هو محاولة وصول إلي أخري، وليس وقوفا عند هذه الأخري، وهذا ما نجده في كل النهضات الكبري، أي إنه ليس هناك أي وصول لنهاية، وإنما وصول إلي بداية، وبهذا المعني تكون الترجمة حالة مفتوحة، واستنباش للاعتمادات الدفينة، وكسر مفاهيم الذات الأدبية المعدودة بإضافة الشبيه البعيد المغيب إلي الشبيه القريب المستنفر في الترجمة. وأكمل: هناك كلمة مرعبة أسمعها، اسمها "الغزو الثقافي"، كأن الحضارة الراهنة حضارة غربية يمكن أن تصنع بعشر سنوات، مع أن الواقع أنه لا توجد حضارة غربية نقية ولا دين نقي، والدليل الفرق الدينية المتشعبة، فنحن العرب بلا فخر، ساهمنا في صوغ هذه الحضارة الغربية، فهل نأتي الآن، ونترك لهم إنجازات الحضارة لنتمسك بالهوية الميتة المفرغة من تاريخها وإنجازاتها، والمتقوقعة في الكهوف، فإذا كان هناك ثلاث نهضات كبري كالنهضة الأوروبية التي خرجت من ظلامية الكنيسة والدين والإقطاع، والنهضة العربية الأولي التي خرجت مما كان يسمي بظلامية الجاهلية -وفي هذا قول- ثم النهضة العربية الأخيرة للخروج من الانحطاط، و قد لعبت الترجمة دورا أساسيا في النهضات جميعا. وأكمل: فوراء كل مفكر عربي مفكر أجنبي، ووراء كل شاعر عربي شاعر فرنسي، ووراء كل مسرحي عربي مسرحي أجنبي، إلا أنه اليوم صار عندنا عكس النهضة، نحن ما بين الدخول والعودة، وبرغم الدور الكبير للترجمة نجد بعض الناس ضد الترجمة والخروج، رغم أن الحضارة هي حضارة الإنسان لا حضارة الشرق ولا حضارة الغرب، وإنما هي ترسبات ما ينتج عنها، من الإنسان وله. ووصف شاؤول العولمة بأنها ربح واستهلاك وسيطرة نقد، ونمط واحد من التفكير، يضعف الزوايا النقدية لدينا، برغم أن النهضة الأوروبية قامت في الأساس علي النقد، ولو كان هناك نمط واحد من التفكير لما كان في حاجة للترجمة، اليوم نحن في مرحلة جديدة نري فيها المجتمع العربي، اليمين الفرنسي وأنصار الأصولية، الكل صار متقوقعًا، رغم أنه لا يمكن أن تكون هناك نهضة عبر حوار الذات مع الذات، وإنما المراحل الأولي من أي نهضة تقتضي الترجمة.