هذا الكتاب محبط لأصحاب المثل القائل "يا بخت من أبكاني وبكي علي". عنوانه اللافت التقريري: "الأسباب الثلاثة للتعاسة في العمل" بقدر إيجازه ووضوحه ومباشرته وصرامته، إلا أن تفصيلاته البسيطة والشيقة لا توحي بمعالجة كئيبة لموضوع يبدو كئيبا للوهلة الأولي. وقبل ذلك للأمر تفسيره، في إطار أن هذا الكتاب المترجم لصاحبه رجل الأعمال الأمريكي "باتريك لينسيوني"، ينتمي إلي الكتب الرائجة في أوروبا وأمريكا من نوعية: "كيف تكسب الأصدقاء" و"كيف تصبح مليونيرا في أسبوعين" و"أفضل الطرق لاستثمار الوقت" الشهيرة، حيث اعتمادها الأساسي علي الخفة والسهولة وعدم التنظير، وإلحاق تجارب ونماذج عملية، والأهم نقل المعلومات من خلال قصص واقعية أو متخيلة، تحيل الموضوع برمته إلي حكاية مسلية. والكتاب الذي بين أيدينا، والصادر لدي دار كلمات عربية من ترجمة إيمان فتحي سرور، من تلك النوعية، لكنه أعمق وأقرب إلي الذهنية العربية. قد تبدو فكرته ساذجة وخادعة مثل أغلب أفكار كتب البيست سيللر الأمريكية تلك، لكن، ورغم قلق المؤلف نفسه من بساطة موضوعه إلي حد اعتبار نفسه "طفوليا تافها"، فإن "الوظائف التي تبعث علي التعاسة موجودة في كل مكان"، هل يمكن أن يكون المبرر هذا الذي ساقه المؤلف لموضوع كتابه أمام قراء سان فرانسيسكو حيث يقيم، هو نفسه ما يقرب ذات الموضوع من نفسية الموظف المصري، البائس غالبا في صورته الدرامية؟! من الجائز ألا نشك في احتمال حصول ذلك، إن ما يؤكد احتمالنا تلك العفوية التي يستقبل بها القارئ العربي كتاب لينسيوني ممازحا: "فقط ثلاثة أسباب!". لم يذكر المؤلف شيئا عن مهنة الصحفيين، باعتبارها - وفق أقرب الظنون - الأقل استقرارا ومن ثم الأكثر بعثا علي التعاسة بالنسبة للبعض، ربما لهذا السبب بالأساس يكون تلهف قارئ يعمل في "مهنة البحث عن المتاعب" علي هذا الكتاب. في مقابل غياب الصحافة ضمن نماذج المهن التي يستعرض المؤلف كيفية التعامل مع أسباب التعاسة الثلاثة فيها: وهي تباعد العلاقات بين العاملين وإحساس الفرد بتضاؤل دوره، وأخيرا غياب التقييم الذاتي، تحضر في الكتاب مهن أخري متفاوتة، أغلبها قريبة من مجال تخصص صاحبه في إدارة الأعمال: من صاحب شركة استثمار، أو مدير مؤسسة لبيع منتجات رياضية، أو عامل في مصنع حلويات، إلي صراف في بنك، يتكلم عن الاخصائيين الاجتماعيين ورجال الدين، ويضرب مثالا بنادلات في مطعم أو عامل النظافة، ويقارن إحساسهم بالرضا الوظيفي في مقابل إحساس مديرة التسويق والإدارة، التي تحصل في السنة علي ربع مليون دولار، وكل هذا ليدلل علي أن "الشعور بالتعاسة ليس له علاقة بطبيعة العمل الفعلي الذي تتضمنه الوظيفة". وهذا اكتشاف يبدو معروفا، العمل الذي يبعث علي التعاسة ليس بالضرورة هو العمل السيئ، والوظيفة المثالية ذات الراتب الأعلي، ليست علي الدوام هي السبيل إلي التخلص من عدم الرضا الوظيفي. يضعنا باتريك في حيرة، إذن هل يصبح التطلع إلي وظائف هادفة، مجزية ومرضية، حلما بعيدا صعب المنال؟!، مؤلف "أسباب التعاسة" يبهره العمل إلي حد الهوس المرضي كما يعترف في مقدمته، لكنه يرفض ظروف العمل التي تضاعف من الألم، المؤلف لا يدين وظائف بعينها، ولا يعزو سبب الاكتئاب والتعاسة إلي العائد المادي الضئيل، رغم أنه يقول فيما يشبه الحكمة: "حتي إذا كنت تحب ما تفعل، فسوف تواجه مشكلة إذا كنت لا تستطيع إطعام عائلتك"، وإن كان يري في العائد الضعيف عائقا أمام التغلب علي أسباب التعاسة، هو يدين الشعور ب"اكتئاب العودة إلي العمل بعد الويك إند"، ليس لأنه سيعاود عملا لا يحقق الوجاهة المطلوبة، لكن لأنه يفتقد العلاقات مع الرؤساء والإحساس بالذات، أما دعوة باتريك الأساسية في كتابه، والتي لا يقولها صراحة لكن يحسها قارئه هي: Take it easy، أنت من البداية كنت علي موعد مع كتاب تفاؤلي شيق، "قصة للرؤساء والمرؤسين" كما كتب علي غلافه، العلاج الذي يقترحه المؤلف - فيما بين السطور - أكثر مفاجأة وتشويقا، والأهم أشد بساطة، (اعمل في المحاسبة وكأنك تبيع برتقالة)، فلأن مشكلة معظم الموظفين افتقادهم للتأثير المباشر علي أرباح الشركات التي يعملون بها، ومن ثم يشعرون بعدم قدرتهم علي التحكم في مصيرهم، يقترح - ضمنيا - تقمص دور الفكهاني، فالبائعون يستمتعون بوظائفهم، لأنهم لا يعتمدون علي آخرين ليخبروهم إن كانوا ناجحين أم فاشلين، يكفيهم أرقام المبيعات!