لم يكن نزول اللبنانيين بكثافة إلي "ساحة الحرية" يوم الرابع عشر من فبراير 2010 تأكيدا لمدي وفائهم لرفيق الحريري ورفاقه وجميع الشهداء الذين اغتيلوا في المرحلة التي تلت تفجير موكبه فقط. ما عكسه مشهد الأعلام اللبنانية تغطي وسط بيروت والخطب التي ألقيت في المناسبة ايضا وجود شراكة مسيحية - إسلامية حقيقية وعميقة في آن صنعها وكرّسها استشهاد رفيق الحريري والمشروع السياسي والاقتصادي والإنمائي الذي عمل الرجل الكبير من أجل تحقيقه. ربما يكمن الإنجاز الأكبر والأهم لرفيق الحريري في أنه أسس لنواة صلبة يمكن أن تؤسس لوطن حقيقي للبنانيين. ظهرت هذه النواة في الرابع عشر من فبراير 2010 بما يدل علي أن التركة السياسية لرفيق الحريري ليست تركة عادية وأن اغتياله كان بالفعل زلزالا وأنه ليس في الإمكان وصف الحدث وتفاعلاته بطريقة مختلفة. كان رفيق الحريري علي حق عندما وصف النظام الذي يمكن أن يتخذ قرارا باغتياله بأنه "نظام مجنون"... بعد خمس سنوات علي غياب رفيق الحريري، يتبين يوميا ان مشروعه حي يرزق. إنه مشروع بناء دولة لبنانية حديثة ذات مؤسسات عصرية تتعاطي مع العالم من منطلق أن لبنان موجود وليس مجرد "ساحة". كان مطلوبا القضاء علي المشروع، فإذا به يطل برأسه مجددا مثبتا أنه حاضر أكثر من أي وقت. يطل المشروع برأسه وروحه ويثبت حضوره عبر مئات آلاف اللبنانيين الذين نزلوا إلي "ساحة الحرية" حاملين علم بلدهم أوّلا ورافعين صور سعد رفيق الحريري، رئيس مجلس الوزراء ورايات "المستقبل"و "الكتائب" و"القوات" وحتي"التقدمي الاشتراكي". مجرد وجود سعد الحريري علي رأس الحكومة اللبنانية يشير إلي أن لبنان صامد وأنه علي استعداد للوقوف في وجه المحاولات اليومية الهادفة إلي تحويل شعبه وقودا في معارك ذات طابع إقليمي لا علاقة له بها من قريب أو بعيد، معارك مرتبطة بالرغبة الإيرانية في تجميع أكبر عدد ممكن من الأوراق من أجل صفقة ما. تأمل طهران بعقد مثل هذه الصفقة يوما مع "الشيطان الأكبر" الأمريكي أو "الشيطان الأصغر" الإسرائيلي... علي حساب كل ما هو عربي في الشرق الأوسط. في حال كان لا بدّ من البحث عن رابط بين الخطب الأربع التي ألقيت في "ساحة الحرية"، فإن هذا الربط يتمثل في ارتكاز خطب كل من الرئيس أمين الجميل والرئيس فؤاد السنيورة والدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري، الذي كان آخر المتكلمين، علي منطق الدولة. وهذا ما لم يستوعبه صغار الصغار من المسيحيين، أي أولئك الذين ليس في استطاعتهم أن يكونوا شيئا آخر غير أدوات لدي الأدوات الإيرانية والسورية. بالمناسبة، هناك محطات كثيرة في مسيرة الجنرال ميشال عون لا تشبه سوي مسيرة المسئول العسكري الفلسطيني "أبو موسي" الذي انتهي بوقا للأجهزة السورية بعد انشقاقه عن "فتح" في العام 1983، هل هذه نهاية مسيحيي لبنان الذين صار عليهم أن يثبتوا أنهم "ليسوا بقايا الصليبيين" عبر البحث عن شهادة في الوطنية من النظام السوري؟ كانت الخطب الأربع خطبا تأسيسية لمرحلة جديدة تقوم علي فكرة الدولة. انها الدولة اللبنانية التي تسعي إلي أفضل العلاقات مع الدولة السورية من الند إلي الند. صحيح أن كلمة "الندية" لا تعجب عددا لا بأس به من المسئولين السوريين وتثير حساسيتهم، ألاّ ان الصحيح أيضا أن الوقت كفيل بإقناع هؤلاء بأن ما صدر عن الرؤساء الحريري والجميل والسنيورة والدكتور سمير جعجع هو في مصلحة العلاقات بين البلدين، بل في مصلحة سوريا أوّلا في المدي القصير والمتوسط والبعيد. ثمة من يقول إن سقف الأربعة التي ألقيت في الرابع عشر من فبراير 2010 في "ساحة الحرية" كان دون سقف تلك التي ألقيت في السنوات الخمس الماضية، في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري. قد يكون ذلك صحيحا شكلا. لكن لدي التمعن في المضمون، يمكن الخروج باستنتاج مختلف. السقف كان أعلي. هناك للمرة الأولي في تاريخ لبنان الحديث أكثرية مسيحية - إسلامية متفقة علي كيفية التعاطي مع سوريا. لقد صنع استشهاد رفيق الحريري الشراكة المسيحية - الإسلامية. ولأنه صنع هذه الشراكة التي تنادي بالعلاقات الندّية مع سوريا، ينصب الجهد السوري علي إيجاد شرخ عميق بين المسيحيين. وهذا ما يفسر إلي حد كبير استدعاء مسيحيين معينين إلي براد، قرب حلب، للاحتفال بعيد مار مارون وكأن المطلوب افهام المسيحيين اللبنانيين أن النظام السوري هو وحده الذي يحميهم في حال كانوا لا يريدون أن يكون مصيرهم شبيها بمصير مسيحيي العراق وفلسطين. كانت الخطب الأربع للرؤساء الحريري والجميل والسنيورة والدكتور جعجع افضل رد علي هذا الطرح السيئ المتميز بقصر النظر والذي ليس في مصلحة سوريا أو لبنان في أي شكل. كانت الرسالة الرباعية في غاية الوضوح وفحواها أن الشراكة المسيحية - الإسلامية هي التي تحمي اللبنانيين. إنها تحمي كل الطوائف والمذاهب وتحمي كل اللبنانيين بغض النظر عن المنطقة أو المذهب أو الطائفة التي ينتمون اليها. في الرابع عشر من فبراير 2010 كان رفيق الحريري حاضرا أكثر من أي وقت. بدا واضحا أن مشروعه الحضاري هو الخيار الوحيد المتاح الذي يصب في مصلحة مستقبل لبنان ومستقبل العلاقة بين سوريا ولبنان وبين اللبنانيين والسوريين. عاجلا أم آجلا، سيكتشف النظام السوري أنه ليس أمامه سوي الاعتراف بأن "الندية" في العلاقات مع الدولة اللبنانية تصب في مصلحته. مثلما اكتشف قبل عشر سنوات أن لديه مصلحة في علاقة طبيعية مع تركيا، فطرد عبدالله أوجلان من أراضيه، سيأتي اليوم الذي يكتشف فيه أن تركة رفيق الحريري لا يمكن الاستهانة بها وأنه بغض النظر عن التحقيق الدولي والمحكمة الدولية، فإن المنادين بالحرية والسيادة والاستقلال في لبنان هم الذين يريدون بالفعل الخير للسوريين واللبنانيين. لماذا لا يختصر النظام السوري الوقت ويستمع جيدا إلي كل كلمة صدرت عن الشراكة المسيحية - الإسلامية، عن سعد الحريري وأمين الجميل وفؤاد السنيورة وسمير جعجع. هل لدي النظام السوري مشكلة في التعاطي مع اللبنانيين الذين يقولون له الحقيقة كما هي وليس في استطاعته التعاطي إلاّ مع الأدوات وأدوات الأدوات من الذين يخجل المرء من ذكر أسمائهم؟