العولمة من المصطلحات التي صار لها شأن في السنوات الأخيرة وأصبحت لها عدة مفاهيم ومدلولات ومعان تختلف من مكان لآخر بل من شخص لآخر طبقا لثقافته فالبعض يعطيها تفسيرا يتعلق بالاقتصاد والآخر بالسياسة والثالث بالاتصالات، ولقد دخل العالم بأسره في رحاب العولمة منذ ربع قرن تقريبًا خاصة أن الأغلبية قد بدأت في التعامل مع بعضها البعض وبخطوات تدريجية من خلال المصالح المشتركة والمعاهدات والاتفاقيات. ولقد وضحت الصورة تماما في حالة الاتحاد الأوروبي الذي اندمج بشكل خاص في أشياء حياتية كثيرة وحاليا يمكن اعتباره كتلة واحدة في كثير من السياسات المتعلقة بالمال والاقتصاد وحركة الانتقال والسفر بين دول الاتحاد. وللعولمة مفهومان لدي معظم الدارسين أولهما أن العولمة هي ثمار العلم والتكنولوجيا بكل تقدمها السريع خاصة في مجال المواصلات والاتصالات حيث إن التقدم العلمي لابد وأن يتشارك فيه جميع أصحاب التخصص من كل أطراف الدنيا ويتابعونه ويتبادلونه حتي يتم تطوير ونشر منجزات ذلك العلم علي مستوي العالم والاستفادة الفورية منه. أما المفهوم الثاني فهو حرية السوق في الحركة والتنقل خاصة رأس المال طبقا للمفهوم الأمريكي للشركات متعددة القوميات والعابرة للقارات ولقد كانت تلك المفاهيم ضرورية لتحرير التجارة العالمية والتصدير والاستيراد وتبادل السلع ونقل التكنولوجيا وبالتالي يتم نقل رءوس الأموال اللازمة لتفعيل حركة الصناعة والتجارة وما بينهما من نقل ومواصلات واتصالات كذلك والأفراد أيضا. ولقد أصبح التداخل السريع بين الجماعات والأفراد والمنظمات والحكومات والهيئات علي مدار الساعة مما جعل العالم كله قرية واحدة لها سماء واحدة تمرح فيها الأقمار الصناعية بما تحمله من فضائيات وتخلت الدولة عن سلطتها لصالح حرية السوق ورأس المال وثقافة الأنماط الاستهلاكية وطريقة الخصخصة فأدي ذلك إلي زيادة عدد العاطلين وتفشي ظاهرة البطالة بين كثير من دول العالم الثالث نظرًا للبعد عن قوانين حماية العاملين والتي كانت الأنظمة الاشتراكية تتبناها قبل عقود. ولقد سبق أن تناولت هذه القضية طوال شهر رمضان قبل الماضي حيث أوضحت وجهة النظر المناهضة للعولمة التي يتبناها كثير من الاقتصاديين والسياسيين في جميع أنحاء العالم ومفادها أن المستفيد الأول من العولمة هو الدول التي تتمتع بقدر أكبر من الحرية والديمقراطية بما يسمح بنموها اقتصاديا بشكل واضح وبقدر محدود من عدم الشفافية والفساد الإداري وعلي ذلك نجد أن الولاياتالمتحدة واليابان وتتبعهما المانيا والصين هي أكثر الدول المستفيدة من العولمة. وفي كتاب صدر في يناير من العام الماضي ضمن سلسلة عالم المعرفة تحت عنوان الفيل والتنين يتحدث عن صعود الهند والصين ودلالة ذلك لنا جميعا أوضحت الكاتبة روبين ميريديث وبترجمة شوقي جلال تحليلها الرائع والمعبر بحكم تخصصها في تناول كل من الدولتين في مقالاتها بمجلة نيويورك تايمز ومجلة فوربس أن العولمة اثبتت أنها خير للفقراء حتي وإن سببت ضغوطا علي أبناء الطبقة الوسطي في أوروبا وأمريكا؟! وأوضحت كيف تسارع النمو الاقتصادي بين شعوب بها من مظاهر الفقر الكثير، ولقد بدأت الصين عام 1978 في فتح الباب للاستثمارات الاجنبية والتي وصلت إلي 600 بليون دولار وهو رقم يتجاوز مشروع مارشال لتعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، في المقابل بدأت الهند في سياسة الانفتاح مع أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ولقد لاحظت أثناء زيارتي الأخيرة للهند عام 1992 مظاهر ذلك التحول مقارنة بما عايشته خلال دراستي للدكتوراه في الفترة ما بين عام 1977 حتي عام 1980 وذلك من حيث انتشار السيارات الحديثة في الشوارع سواء الواردة من مصانعها الأصلية أو من التصنيع المحلي المشترك لتلك العلامات التجارية، كذلك انتشار المباني الحديثة في المنتجعات السياحية وفي ضواحي المدن بعد أن كانت غالبية فقراء الهند يعيشون علي الأرصفة وفي القطارات المخزونة والمهجورة بين المحطات وفي مواسير المياه والصرف الصحي المخزونة في العراء وأكواخ من الصفيح والكرتون والمشمع وكل ذلك يراه الهابط بالطائرة عند اقترابه من الممرات الجوية ويراه راكبو القطارات بعد مغادرتهم المحطات الرئيسية والفرعية. لو تحدثنا عن الهند باعتبارها أكبر الدول الديمقراطية النامية والتي تفوقت علي كثير من الدول نجد أن الهند لديها حوالي ثلاثة ملايين من خريجي الجامعات سنويا مقابل مليون ونصف مليون خريج من أمريكا في حين أن الصين لديها أكثر من أربعة ملايين خريج جامعي سنويا وهذا يتناسب مع حجم الصادرات الصينية الذي وصل إلي نحو 450 بليون دولار رغم أن عدد القوات الصينية يفوق الأربعة ملايين وتقدر نفقاتها بحوالي 50 بليون دولار سنويا. كذلك ارتفعت صادرات الصين إلي 500 بليون دولار سنويا كما زاد في المقابل اجمالي الناتج القومي إلي أكثر من 9٪ بينما في الهند نحو 6٪ ولقد دفع اليأس دولة الهند إلي التغيير الاقتصادي بسرعة منذ العقد الأخير من القرن العشرين ووضح ذلك عندما زاد عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر إلي حد رهيب بحيث وصل إلي 40٪ من السكان. ولم يمنع هذا النمو السريع لشركات التكنولوجية خلال وقت قصير من الدخول في مشروعات مشتركة وعلي سبيل المثال لا الحصر زادت عوائد شركة من الشركات إلي ما يزيد علي مليارين من الدولارات وتستخدم حوالي 70 ألف من الموظفين من بينهم أكثر من 300 من أصحاب الملايين من الدولارات، صحيح أن الإصلاح الاقتصادي كان صعبا وكان ضد موروثات سياسية واقتصادية قديمة ولكن الخوف من التفوق الصيني جعلهم يصرون علي الازدهار عالميا. النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي جعل الصين تصنع ثلث لعب الأطفال في العالم عام 2000 ثم ثلاثة أرباع لعب الأطفال في العالم هذا العام بتكلفة تتخطي مائتي بليون دولار وكذلك معظم أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة بل وثلث عدد الأحذية في العالم. وبرغم التناقض الواضح بين كل من الصين والهند حيث أن الأولي تتبع نظاما شموليا بينما الثانية تتمتع بديمقراطية عريقة ولكن كلتا الدولتين حدثت لهما تحولات مذهلة إلي حد أنهما صارا أرضا خصبة لرجال الأعمال المحليين والأجانب وتتحقق علي أرضهما أعلي المعدلات الاقتصادية مما أدي إلي ارتفاع مستوي معيشة مئات الملايين من الهند والصين عندما هيأت العولمة فرصة عمل وأجورًا عالية رغم كونها منخفضة نسبيا عن أجور أهل الغرب، ولقد وصل إلي سوق العمالة العالمية أكثر من بليون عامل مما أدي إلي تراجع أعداد العمالة في الدولة الغربية، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم في بقاء المحروسة في قعر القفة!