يدخلك هذا الفيلم إلي فوازير الحياة المصرية من أوسع أبوابها، ويطوف بك بين قضايا أبطاله وذواتهم، كل قضية مختلفة عن الأخري وكل "ذات" لا تشبه الأخري سواء الأم أو ابنها الوحيد، أو الأخت وأختها، لا تشبه أي واحدة منهما الأخري في شيء، وتتفاعل كل شخصية بمفردها مع العالم الموجود حولها، والبعيد عنها، تأخذ، أو تحاول، وترد إليه الناتج.. إنه "واحد.. صفر" الفيلم الأكثر تعبيرا عن عامنا الراحل 9002، الذي كتبته مؤلفة صاعدة تبحث عن مكان وسط الزحام، تكتب قصصا وتدرس بمعهد السينما لتؤهل نفسها أكثر وهي مريم نعوم، وأخرجته امرأة ثانية قدمت قبله اعمالاً قليلة لكنها واعدة تكتشف وأنت تراها أن لديها وجهة نظر مختلفة عن السائد، ولديها قدرة علي استخدام أدواتها وقيادتها إلي عمل تتوقف انت عنده وهي المخرجة كاملة أبوذكري. وأظن كثيرين منا يذكرون فيلمها السابق "ملك وكتابة" والآن أبح "واحد.. صفر" هو الحصان الأسود في عام ترصعه ابداعات محددة علي مستوي الكتابة والإخراج، أفلام مثل "خلطة فوزية" و"احكي يا شهرزاد" و"الفرح" و"ولاد العم" و"بوبوس" وأخيرا "بالألوان الطبيعية".. وكل واحد منها قدم تفسيراًً مهماً في موضوع يشغلنا علي كل مستويات عديدة، لكن "واحد صفر" تفوق عليها في رصده الحدث الوحيد الذي يقيم المجتمع المصري ويقعده الآن.. وهو بطولات كرة القدم في أي اتجاه "عربية - افريقية - كوكبية". إنه الفيلم الذي وضع يده علي الداء والدواء وإن كان لم يقدم أسباب "الداء" ولكنه قدم أعراضه في الأماكن والوقائع والسلوكيات ونمو الشخصيات علي نحو بالغ الفردية والانانية وكأنه وضع كشافاً عملاقاً يضيء لنا أحوالنا التي انشغلنا عنها بالسعي إليها، والآن وأنا أقلب أوراق العام الراحل بغية الخلاص منها توقفت امام أوراق عديدة لا يمكن الخلاص منها بالقائها في سلة المهملات لأنها مازالت موجودة، تسهم بقوة في تأكيد المناخ المحيط الذي نتنفسه جميعا فيدفع كل منا إلي التمسح بذاته والتقوقع بداخلها. وحتي لو فعل هذا وقرر ألا يتفاعل مع أي شيء "يعوق مسيرته"، فهو لابد وأن يصطدم بالقمامة مثلا بمجرد خروجه من بيته، وسوف تطالعه وجوه أولاد وبنات الشوارع بمجرد السير في الشارع راجلا أو راكبا، وسوف يشعر بالنكد الأزلي حين يشتري شيئا سواء من عربة فول في الشارع أو من سوبر ماركت. أما لو كان ذاهبا لقضاء أمر ما في مصلحة حكومية فيومه غير معروف اللون، أسود غالبا أو أبيض احيانا "إذا كان سعيد الحظ، وإذا قرر أن يركب مواصلة فتكفيه نظرة علي الأتوبيسات، النقل العام والخاص، ليعرف ان حالها واحد والباص لا يصلح للاستهلاك الآدمي، أما لو ركن سيارته في أي مكان فسوف يخرج له من تحت الأرض - يطلب المعلوم وهو لم يوقفه أو يبذل جهدا، يتذكر حكاية البلطجية أو "المسجلين خطر" فيدفع أو يقرر الدخول في معركة تنتهي غالبا بالدفع أيضا. في الأوراق أيضا الخناقات العادية التي لبست الثوب الطائفي وكأنه نوع من النيولوك للمشاكل في مصر، وفيها الاحداث الطائفية الخالصة أيضا، فيها قضية "سيناء" التي كانت حلما استعدناها بالكثير من الكفاح والعمل لكن "نفسنا" انقطع بعدها فتركنا الحلم ترتع فيه الفئران ويستولي علي أجزاء منه الشطار والقادرون. في الأوراق أيضا حكاية البطالة وشباب قادر علي فعل المستحيل، لو وجد مشروعا يعمر عقله وقلبه وجيبه، وفيها "فانتازيا" السكن في مصر، عشرات ومئات الاعلانات عن فيللات ومنتجعات ومجتمعات ساحرة، وملايين لا تجد شققا صغيرة تستطيع الحياة فيها، ما زالت "الدويقة موجودة" واضيفت لها "الهجانة في 9002". ولا ندري ما هو الاسم القادم في 0102؟ ما زالت أوراق اخري متعددة ومهمة مفتوحة، لا يمكن فصلها عن حياة الناس لأنها قريبة منهم قرب الدم واللحم، كالعلاج والتعليم وسلامة الغذاء والطرق الآمنة ومشاعر الرضا حين يدرك المواطن أن أمواله المنهوبة في الخارج عادت سواء عاد الهاربون أم لا، وأن أرضه المنهوبة في الداخل أعيد النظر فيها، حتي لا تصبح المدن الجديدة زماماً مغلقاً علي الأثرياء المصريين والعرب وحدهم. هناك أيضا حكاياتنا مع الأشقاء بداية بفلسطين التي وصل موقفنا معها ومنها إلي مجرد التمني بأن يتوحد الفلسطينيون حتي يمكن مواجهة الغاصبين الذين ينفذون مخططهم لابتلاع كل شيء بإيقاع أسرع من الخلاف الفلسطيني الداخلي، وتصبح المعادلة الأصعب الآن هي الرهان علي وحدة اصحاب الحق في مواجهة التحالف المتين لدولة اسرائيل الصهيونية المغتصبة واصدقائها. أما بقية الأشقاء سوريا، لبنان، السعودية، والامارات والسودان ودول شمال افريقيا، فلكل منها حدوتة مع مصر ليس هذا وقتها ولا مكانها، ولكنني مثل الملايين من المصريين، لن أنسي علاقتنا بالجزائر بمناسبة الكرة والتأهل لكأس العالم التي تحولت من مباراة الي تراجيديا تنافس الملاحم الاغريقية القديمة ولا أدري هل كانت ردود الافعال تجاه مباراة الجزائر معنا في السودان قادمة من غضب يتجاوز الكرة نفسها، أم من زوال مفعول الكرة كمسكن للآلام الاجتماعية، أم اكتشاف متأخر لمفردات قديمة حان وقت مراجعتها وتحديثها أو شعور بالاهانة. أيا كان التفسير.. فلم يخطئ فيلم "واحد.. صفر" أو يبتعد كثيرا عما حدث في العام الراحل حيث تحدث عن لحظة الانصهار التي سعي إليها أبطاله، والتي لايد لأحد منهم شخصيا فيها، لكنها تخصهم جميعا.. أنه انصهار وليس انتصاراً، في الفيلم كانت اللحظة انتصاراً وحد الكل في ظل حصول مصر علي كأس الأمم الافريقية عام 6002 ولكن الواقع تجاوز الفيلم بعد عرضه حين جاءت أحداث نوفمبر 9002 . لم يحدث انتصار، ولكن انصهار للكل في واحد هو علاقتهم بمصر.. ذلك الرحم الذي يجمع كل المصريين عند الشدائد والافراح الكبري.. وأيضا الاكتشافات المتأخرة عن النفس في علاقتها بالآخر.. وهذا ما يحتاج إلي فيلم آخر، بل أفلام يبدع أصحابها في رصد مجتمعهم وتقديمه بكل الصدق والفن.. والغضب.