تُعد صفحة "الوفيات" في أي صحيفة ذات دلالات خاصة، من خلالها تكتشف شبكات العائلات، وتشابكاتها، والأهم تكتشف معايير العدالة في شغل الوظائف في المجتمع. هذه الملاحظة ليست ابتكارا خاصا، فقد سبقني باحثون كثيرون في تتبع صفحات الوفيات، التي تكشف عن علاقات النسب والحسب بوضوح، دون مواربة. مستشار في محكمة نجد أبناءه وبناته في وظائف متفرقة في سلك القضاء، وأبناء أساتذة الجامعات- خاصة في مجال الطب- يعملون في السلك الجامعي، وأبناء الدبلوماسيين دبلوماسيون،... وهكذا. وإذا علا قدر الشخص في وظيفة، أعرف أن أبناءه سوف يتجهون للعمل في جهات عليا، أكثر نفوذا وأهمية، مستغلا شبكات علاقاته المتنامية والمتداخلة. كارثة أن يكون الجانب الأكبر من الوظائف العامة الحساسة في الدولة حكرا علي أبناء عائلات بعينها، في مشهد أقرب إلي ما قبل الدولة الحديثة، حين كانت العائلات تتوارث الوظائف، والأبناء يعملون في نفس مهن آبائهم. منذ فترة قريبة قرأت نعيا في صحيفة يومية لمستشار، أبناؤه الخمسة جميعا من رجال القضاء، وبناته-بالمناسبة- متزوجات من قضاة. من هنا يخوض وزير العدل معركة أساسية في مجال التعيينات، ويحاول قدر الإمكان أن يقضي علي حالة "التكويش" علي الوظائف في سلك القضاء. والأكثر من هذا، فإن الذين يحظون بمكانة متميزة في بعض المشروعات الحكومية الممولة أجنبيا ستجدهم من أبناء بعض العائلات صاحبة النفوذ، وعادة ما تكون رواتب هذه الوظائف مرتفعة، خارج الدرجات الوظيفية الحكومية المعتادة. لا يعني ذلك ألا يعمل شخص في مهنة أبيه، ولكن المطلوب هو ألا يشغل الشخص الوظيفة دون استحقاق، ودون إجراءات تنافسية حقيقية. من يشغل موقعا وظيفيا بلا جدارة، يعني أمرين. الأول: هو طرد شخص آخر يستحق الموقع بالضرورة تعب كثيرا من أجل الحصول عليه، وذلك حتي يشغله شخص آخر لا يستحقه. والأمر الثاني: هو تدهور كفاءة الوظيفة العامة، عندما يشغلها شخص غير كفء، بالاستناد إلي علاقات الحسب والنسب، وفي بعض الأحيان تحمي هذه العلاقات هذا الشخص طوال مسيرة حياته المهنية إذا وقع في خطأ، أو ارتكب ما يستوجب المساءلة والعقاب. القضية هي العدالة، وتعد من الأركان الأساسية في أي مجتمع ناهض. وهناك مسالك كثيرة للحفاظ علي العدالة، أهمها وجود تنافس حقيقي وجاد في شغل المواقع الوظيفية، خاصة في الوظائف العليا. يعد ذلك هو الأمل الذي يفتح الباب أمام الحراك إلي أعلي بين أبناء المجتمع، حين يصبح العلم والكفاءة معيار التحضر والترقي علي السلم الاجتماعي. الغريب أن كثيرا ممن يسعون إلي إقحام أبنائهم وبناتهم علي المجالات التي يعملون فيها جاءوا من أسر بسيطة اجتماعيا، استفادت من التعليم المجاني، والتوظيف التلقائي في الستينيات من القرن الماضي. يسود الشباب اليوم حالة من الإحباط بسبب فقدان الثقة في قواعد المنافسة في المجتمع، وهي الحالة التي تدفع بالأكفاء إلي ذيل الصفوف، وتدفع بمحدودي القدرات أصحاب الوساطة والحظوة إلي المقدمة. وأسوأ ما يواجه المجتمع هو الشعور الجماعي بالإحباط، وبأن التعليم لا يساعد علي الترقي علي السلم الاجتماعي، وأنه لا بد من الوساطة والنفوذ وسيف المعز وذهبه. هذه الحالة دفعت بعض أبناء وبنات العائلات المرموقة، من ذوي الكفاءات والخبرات، إلي الإصرار علي خوض المنافسة في المجتمع، متحللين من أية امتيازات تلقائية يحملها لهم النسب العائلي. سألت إحداهن مرة، وهي زميلة لي في إحدي اللجان الاستشارية علي مستوي الدولة، لماذا تحرصين علي إخفاء هويتك الأسرية في التعامل؟ أجابت: أريد أن أكون نفسي، ولا أريد أن أتمتع بمعاملة خاصة ليس لسبب في ذاتي، ولكن لأسمي الثلاثي. شخصية تبعث علي الاحترام، لكنها- للأسف- استثناء علي قاعدة!